سيف الدين عبد الفتاح
جاءت الثورات بقوة دفع هائلة لرفض ما هو قائم من أوضاع منظومة ظالمة فاشلة. استخدمت الثورات قوة الدفع الهائلة هذه في تحقيق انتصاراتها الأولى، بإزاحة بعض من أعتى الطغاة الذين جثموا على صدر الشعوب لعشرات السنين.
إلا أن نجاح الثورات في تحقيق وعدها لأمتها بنقلها من مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى؛ رهين بامتلاكها نوعا آخر من الطاقة افتقدتها المسيرات الثورية في هذه المراحل المبكرة من مسيراتها، ألا وهي طاقة الحماية وحركة البناء.
وفي هذا المقام، فإن نظرية الساقين في التعامل مع المسار الثوري من جهة والتعامل مع قوى وسياسات المضادين للثورات والتغيير أمر مهم في ضوء خيارات استراتيجية من طبيعة مرحلية، على طريق اقتراح مراحل انتقالية سوية تقدم البديل الأصلح، وتحقق الاستقرار الحقيقي والتغيير المأمول ضمن طبيعة مدنية مقبولة في البيئة الإقليمية والدولية إلى حد كبير، وهو أمر قد يحيلنا إلى التكلفة العالية التي يطرحها المضادون للثورات على الشعوب وعلى المنطقة على حد سواء، ويكرس حالة الفوضى التي لا يمكن الخروج منها في مدى قريب أو منظور.
نظرية الساقين تقوم على قاعدة المسار الثوري كمسار أساسي والساق السياسية القائمة على مسار سياسي يستشرف أفقا سياسيا يتعامل مع طبيعة المشاكل المعقدة في المنطقة، وباعتبار المسار السياسي مسارا داعما ومساندا للمسار الثوري.
ويقدم المسار الثوري حالة ضاغطة على نظم المضادين للثورة، ومنها "الانقلاب العسكري في مصر" ومنظومته الفاشية، ويجعل تكلفة استمراره عالية، كما تشكل خطرا محتملا في المدى المنظور والمتوسط على سائر المنطقة لدخولها على الخط في إحداث حالة من الفوضى، وضمن تحالفات مشبوهة تحت دعاوى من محاربة الإرهاب، وصفقة القرن المشبوهة وتحالفاتها الخبيثة من نظم استبدادية وتطبيع انبطاحي مع الكيان الصهيوني
بين الحالة الضاغطة وكلفة عالية للاستقرار المزعوم من قبل قوى الثورة المضادة، ومع بروز مؤشرات واضحة لحال فوضى عارمة تسهم فيها قوى الثورة المضادة بما فيها النظام الانقلابي، يكون المقترح المتعلق بإمكانات تؤيد مستقبلا حقيقيا يأخذ بروز الشعوب ضمن معادلة قادمة مع زخم ثورات الربيع العربي ولا يهمل آمالها وأشواقها، ولا مطالبها وضروراتها، ومع الإشارة إلى إمكانية صناعة بدائل مدنية قادرة على إدارة مراحل انتقالية تقوم على قاعدة مرحلية أولية يمكن تسميتها "مرحلة الانفراجة"، وإدارتها بكل السبل إدارة جماعية قادرة على إحداث نقلة نوعية لتلك الدول وإخراجها من حال الفوضى، وتطويق كل مصادر الاحتقان الشعبي ومعامل الغضب المتزايدة، وإحداث ما يمكن تسميتها باستراتيجية "المصالحة المجتمعية"، والتي تواجه كل السياسات والخطابات التي من شأنها زراعة الكراهية وصناعة الشعوب المتناحرة، كمقدمات مجنونة على طريق الاقتتال الأهلي والنيل من تماسك الجماعة الوطنية ومسيرتها.
إن البديل الانتقالي هو جزء على عتبة التغيير الحقيقي الحافظ للاستقرار جوهرا ومآلا في تأثيراته الإيجابية على الشعوب وتحقيق مطالبها. البديل الانتقالي لإدارة المرحلة الانتقالية يسلمنا لبديل بناء مجتمع يقوم على قاعدة من الثقة يؤسس لعلاقة قوية ومتينة، سوية وفاعلة بين المجتمع والدولة، للقضاء على حالات الاستقطاب والانقسام والفرقة، فيؤسس لبديل ديمقراطي يحتكم إلى قواعد وآليات الديموقراطية ومساراتها. هنا فقط يمكن أن تجري الانتخابات، فتعكس حقيقة وأوزان القوى الحقيقية على الأرض، وهنا فقط يمكن أن تبني المؤسسات الفاعلة القائمة بأدوارها والمعنية بوظائفها
هذه هي نظرية الساقين المقترنة بعملية انتقال تتم على مرحلتين: "مرحلة الانفراجة" ومرحلة المصالحة المجتمعية، لبناء علاقة سوية بين الدولة والمجتمع، ومواجهة المشاكل والتحديات التي تفخخ هذه العلاقة وربما تنسقها، أو تظل في حال مرض سرطاني يضعف الدولة الحقيقية والمجتمع وشبكاته على حد سواء. وهي لا ترى أن المسار السياسي ليس بالضرورة خصما من المسار الثوري، ولا المسار الثوري بالضرورة يستبعد كل مسالك المسار السياسي بكل أدواته ومساحاته. ويخطئ من يتصور أن الفعل الثور ليس فعلا سياسيا بالأساس، كما يخطئ من يتصور أن الفعل السياسي يستبعد الفعل الثوري من حساباته.
إن نظرية الساقين لا ترتبط فحسب بالنظر لعلاقة المسار الثوري بالمسار السياسي، ولكن تتعلق أيضا بجملة من الدواعي وزوايا النظر التي تترافق مع بعضها البعض، ضمن رؤية الجمع بين الموقف الاستراتيجي والمعارك التكتيكية التي يجب أن نخوضها ضمن استراتيجية العمل المستمر والنظر الجامع، لا الرؤية الحدية التي تقطع بوقف واحد.
وقد يتسع الأمر لأكثر من موقف وأكثر من طرف؛ إنها تشير إلى سعة السياسة وعملياتها وسعة التعامل والتعاطي السياسي ومساحاته، فتضع البدائل للحركة لا باعتبارها بدائل متناقضة ومتضاربة ومتقاطعة، بل تضع البدائل في أكبر مساحة من المناورة في الحركة والسعي في مسالك شتى، بل يمكن الجمع بين تلك البدائل مع سعة الحركة واتساع مساحات التدبير، لتؤكد على توزيع الأدوار وتقسيم العمل وإسناد المهام، بما يكتل الطاقات ويعظم عملية التغيير والتأثير.. هذه نظرية الساقين التي تحسن عمليات النزال في ميادين المعارك السياسية التي لا تقل قيمة عن ميادين الثورة؛ التي تتوج فيها عمليات التغيير من خلال الاستناد إلى ظهير شعبي يساند التغيير ويدعمه؛ لأنه ببساطة يقع في صميم مصلحته وتحقيق ضروراته وحاجا
هكذا تعلمنا من أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع عن السياسة والتعاطي معها بالعقل المفتوح والتدبير المرن؛ في تحقيق الأهداف الاستراتيجية على كل مدى مناسب، ليفتح أفق الحركة السديدة والعمل المكثف الراشد، لتتساند الأدوار وتعظم الطاقات وتستثمر كافة البدائل والمسارات. فهم هذا الدرس ببصر رشيد يذكرنا بكلمات مهمة، أولها الاعتراف بكافة الطاقات من حيث الوجود، واستثمارها في أي وضع يتطلب إدارة بصيرة للصراع. وعدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، وهو ما يعني أن التعدد في المواقف والأدوات وآليات لا يعني مع وجودها أو إهمالها وإغفالها؛ لأنها لا تتطابق معي موقفا أو تتحد معي في ذات الطريق. هذا الوجود المتعدد لا بد أن يستثمر بحنكة كبيرة وبمرونة شديدة وبحكمة وبصيرة.
إنها موجبات إدارة الاختلاف والتنوع في سياقات الوحدة في الهدف والمقصد، وأن الفعل الرشيد والعمل السديد لا يرتبط بحالة انفعالية تشير لمحبة وكراهية من جراء الاختلاف، ولكن تتعرف على فن الائتلاف والاصطفاف خروجا من حال الاختلاف. إنه الدرس الأول في التعاطي مع مساحات السياسة.
أما الدرس الثاني، فإنه يتعلق بملء الفراغ. "الفراغ لا بد أن يُملأ"، قاعدة ذهبية في الحالة الاستراتيجية والفعل والعملية السياسية. ويرتبط بهذا الدرس الثاني درس ثالث يرتبط بالقاعدة ذاتها التي تعالج مسألة ملء الفراغ، ألا وهي أن الفراغ لا بد أن يملأ بك أو بغيرك. إذا أنت لم تتقدم أو تزاحم على الأقل في ملء الفراغ، ملأه غيرك. على الأقل فلتملأه أنت كما غيرك، حتى لا تغيب عن المشهد، فضلا عن الغياب في عملية التأثير وميادين الفاعلية.
وهنا نصل إلى الدرس الرابع الذي يؤكد على مبدأ الحضور في المشهد، والتأثير فيه أولى من المغيب والغياب عنه؛ لأن السياسة لا تعرف لغة القعود والانسحابية أو العزلة والمقاطعة السلبية، التي يرفض فيها عدم تكملة المباراة حتى النهاية. السياسة بهذا المعنى عمل كفاحي يخدم ويدعم (كما أشرنا من قبل) العمل الذي يتعلق بالتغيير الجذري والثورات؛ بفعل تتراكم أعماله وأدواته وفعالياته. "السياسة ليس فيها القمصة" وادعاء الغضب والإعلان أنك لن تكمل، السياسة عمل مستمر حتى يحين وقت التغيير الأكبر الذي يحين وقته، ومن المهم أن تتعظم الإرادة التي تترافق مع إعداد العدة "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة". معادلة الإرادة والإدارة والإعداد والعدة وتدبير الأدوات وفاعلية الأداء، عمليات بعضها من بعض.
هذه مقدمات طالت؛ ربما لتسويغ معركة يجب الإعداد لها إعداد رصينا وبصير، في ظل هذه القواعد التي أشرنا إليها. إنها معركة مواجهة التعديات الدستورية التي يخوضها المستبد بكل قواه مع زبانيته الداعمين لفرعنته وطغيانه، معركة مع الطاغية ليس الغرض منها الانتصار عليه أو فيها انتصارا مؤزرا، ولكنها رسالة من صاحب معركة يهتم بالتغيير القادم والتغيير الكبير، نعلن فيها عن الوجود والمقاومة، بعدما حول الطاغية الوطن إلى "مقتلة" لا يٌعرف لها آخر.
والمعركة مع الطاغية لا بد أن نخوضها في أي ميدان وكل ميدان، ولا تحقرن من المعروف في عملية التغيير شيئا.. ومن هنا، فإنني أطلب من الجميع إدارة معركة وإدارة صراع مع الطاغية.. مؤكدين له بالفعل والقول في رسالة قوية ومدوية، بالفكر والحركة والفاعلية، أننا سنواجه الطاغية والطغيان في كل ميدان.
أضف تعليقك