وائل قنديل
تمامًا، عند الفجر، وقبل أن يكشف النهار عن أول خيوطه، شَنقوا تسعًا، وأضافوهم إلى آلاف آخرين، قتلوهم في التوقيت ذاته (عند الفجر) في ميدان رابعة العدوية.
لا أظن أننا بصدد جريمتين منفصلتين، أو جرائم مختلفة، بل هي جريمة واحدة ممتدة منذ ذلك الصيف الحزين في يونيو/ حزيران 2013، تتخذ أشكالًا عديدة، لكن الجوهر واحد: مقتلة مستمرة من أجل استمرار قاتل وحيد في السلطة، ومن لم يمت برصاصة عسكريّ في فض الاعتصام يمت برصاصة، أو طعنة سكين، بيد قاضٍ يسدّدها في جسد العدالة، قبل أن تستقر في جسد المظلومين.
حتى ردود الأفعال لم تختلف عما كانت عليه في المذبحة الكبرى، لا شيء تغير سوى أن الراضين بسفك الدماء صاروا أقل فجاجةً في التعبير عن الرضا، مع استمرار حالة الخوف من إعلان إدانة واضحة وصريحة للجريمة.
تستمر أيضًا حالة الحزن الاستثماري المدلّس على أرواح الضحايا، فلا تعدم أن تسمع إداناتٍ ساقطةً للتمسك بجوهر الحكاية كلها، فينطلق فحيحٌ من هنا وهناك يردّد: كفى كلامًا في السياسة، نريد إخراج المسجونين من زنازينهم.. وكأن هذه الأحكام ليست سياسيةً من المنبع حتى المصب، أو كأن هؤلاء لم يُعدموا ظلمًا وعدوانًا إلا لأنهم أصحاب قضية سياسية وأخلاقية.. أو كأن النظام الذي يتغذّى على الدم يلقي بالًا لدعواتٍ تطالب بحقن الدماء وإيقاف المقتلة.
تسمع أيضًا من يثغو ببلاهةٍ، طالبًا من الناس أن يكفّوا عن تذكّر المأساة، ويتوقفوا عن التصدّي لتزييف التواريخ، بحجة أن هذا يضر بالقضية، إلى آخر هذه القائمة من صور الابتزاز والابتذال معًا، من دون أن يتنبه أحدٌ إلى أن الهزيمة الأكبر للشعوب تأتي عندما تفقد ذاكرتها، وتُهمل توثيق تاريخها، حين تفقد الجغرافيا، وانظر إلى فلسطين، لتدرك أنه لم يبق لدى الشعب المقاوم سوى الدفاع عن التاريخ، في وقتٍ تحترق فيه الجغرافيا وتشنق الخرائط.
نعم، نحن في حالة انهزام مرعبة، إذ تنطق كل الوقائع على الأرض بهيمنة السفاحين على الجغرافيا، وهنا يصبح التشبث بالحقائق، والدفاع عن الرواية الصحيحة ضروريًا، بل وواجبًا أخلاقيًا ووطنيًا، كي لا تكبر ليلى، ابنة الشهيد أحمد وهدان الذي أعدموه أمس، فتجد من يحاول إقناعها بأن والدها مات شنقًا لأنه تهور أو تورّط في الانحياز لقضية خاطئة.
سنروي الحكاية للصغار قبل الكبار، كي لا يأتي يوم ويجد أنفسهم فيه يتعاطون تاريخًا مسمومًا، فلربما يكون الصغار أكثر منا قدرةً وإصرارًا وإخلاصًا.
من المهم، والحال كذلك، الحفر في جذور الجريمة التي لا تبدأ وتنتهي عند قاضٍ أصدر قرارًا سياسيًا بقتل معارضي انقلاب عسكري، هو خادمه، على الرغم من أن القضية ليس فيها دليل مادي واحد على ارتكاب الجريمة، إلا اعترافات منتزعة تحت التعذيب بالصواعق الكهربائية، وهو ما رفض أن يحقق فيه رئيس المحكمة.
تبدأ الجريمة من مسافةٍ أبعد من ذلك، وشارك فيها مجرمون عديدون، من ذلك المعلم معدوم الضمير الذي منح شهادة نجاح في اللغة العربية في الثانوية العامة لطالبٍ لا يجيد القراءة والكتابة.. وتستمر مع أساتذة في كلية الحقوق، تخرّج على أيديهم طالبٌ لا يستطيع أن يقرأ آية قرآنية في بلد ينصّ دستوره على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع.. وتتواصل الجريمة مع مسئول عين خريج الحقوق الأمي في سلك القضاء، لتتطوّر مع مسئول آخر يمنحه ترقياتٍ، ويصعد به إلى أعلى مناصب الحكم والاستدلال والاستنباط.
كيف يمكن أن يثق أحدٌ في أهلية قاضٍ على استنباط أحكام، والاستدلال بنصوصٍ شرعيةٍ وقانونيةٍ، لا يستطيع قراءتها بشكل سليم؟.
كيف يمكن الوثوق في حكمٍ مبنيٍّ على تفسير آية قرآنية يخطئ القاضي في قراءتها، وبالضرورة، يخطئ في فهم معانيها، إذا ذهبنا مع فلاسفة اللغة في أن اللغة هي الفكر منطوقًا؟.
الشخص الذي يجعل المفعول به فاعلًا، ويرفع المجرور وينصب المرفوع، يمكن بكل تأكيد أن يحول المجنيّ عليه إلى جانٍ، ويصير على يديه المظلوم ظالمًا، نتيجة الفقر المهني والمعرفي، فإن أضفت إلى ذلك البؤس السياسي والأخلاقي، ناهيك عن أن من بيده الحكم والفصل هو بالأساس طرفٌ في الخصومة، فإننا نكون أمام حالةٍ من حالات الانتهاك الصارخ لأسس العدالة وقيمها ومبادئها.
لكن، والوضع كذلك، هل هناك من يهتم، في الخارج والداخل، بالعدالة وقيمها من الأساس؟ الحاصل أننا في عالمٍ بات يحتقر العدل، وينحاز للظلم من دون أي استشعارٍ للحرج، إذ يفعلها نظام السيسي هذه المرة، عقب عودته من ميونيخ، حيث كانت السوق منصوبةً لبيع الأكاذيب ومستلزمات الاستبداد في مهرجان الحرب على الإرهاب، حيث الكل على استعدادٍ للتضحية بالمبادئ الإنسانية لتمرير صفقةٍ سياسة، أو سلاح، لا فرق. وفي وضع مثل هذا، ليس غريبًا أن يُنصت التجار الكبار لذلك الكذوب القادم من بلدٍ، يطل على بحريْن، كلاهما أحمران، تربطهما قناة حمراء، بتفريعةٍ، ويجري من جنوبها إلى شمالها نهر أحمر.
أضف تعليقك