• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: عامر شماخ

تابعت حوارًا بين اثنين؛ يدافع أحدهما عن شيخ متخم بالثراء، ممن تاجروا بالدين وتكسّبوا بالدعوة فى حال الرخاء؛ فلما جدّ الجد وطلب الناس رأيه فيما حل بنا من سفك الدماء وسجن الشرفاء ومصادرة الأموال -ولى هاربًا إلى إحدى الدول العربية، وقد انكتم صوته، وامتنع عن الفتوى إلا ما اعتاد المحاضرة فيه من موضوعات الوضوء والصلاة والأكل والشرب إلخ.

وقد غاظنى ترديد حليف الشيخ مقولة «لحوم العلماء مسمومة» يهدد بها الذى يحاوره. ولعلمى أن تلك المقولة ليست حديثًا أو حتى أثرًا، وأن أمثال هذا الحليف يلقون بها –عادة- فى وجوه منتقديهم باعتبارها حديثًا؛ تهديدًا لهم من الاقتراب من ذوات ومخصصات هؤلاء المشايخ -فقد أردت تبيان أصل المقولة ومدى صحتها ضمن جملة الأخطاء الشائعة التى يجب أن تُصحح.

هذه الجملة من كلام الإمام الحافظ ابن عساكر (499- 571هـ)، وردت فى كتابه «تبيين كذب المفترى»، ونصها: «اعلم يا أخى -وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله فى هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم».

وهذا كلام طيب لا اعتراض عليه، كما لا اعتراض على صاحبه ذى الباع فى العلم والدين، إنما الاعتراض على من يفهمون الجملة على غير ما قصد الرجل، فمن دون شك هو يقصد العلماء الحقيقيين، الربانيين، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، الحافظين لحدود الله، الأتقياء الأنقياء الذين يخشون الله (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..) [فاطر: 28]، العاملين بعلمهم على هدى وبصيرة وعلى سنة المعصوم -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، الصادعين بالحق فى وجوه الطغاة، من تجب طاعتهم (وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ..) [النساء: 59].

ولا يقصد العالم الجليل -بالطبع- أولئك الدجالين أشباه العلماء، الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، ويكتمون العلم، ويشيعون الجهل، ويوقعون العداوة بين المسلمين، وقد تجد فيهم المفوه عليم اللسان، وقد حذرنا الله -تعالى- منهم فى مواضع كثيرة من كتابه الجليل، قال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ..) [الجمعة: 5]، وقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ...) [الأعراف: 175- 176].

وأنا -شخصيًا- لا أعتقد بسمِّية لحم ذلك الذى أحل دماء المسلمين وادّعى أن (ريحتهم نتنة) -وهذا محسوب للأسف على العلماء ووصل إلى درجة (مفتى الديار)، كما لا أعتقد بسمِّية لحم من وافق على إعدام العشرات خوفًا من ضياع منصبه، ولا أعتقد بسِّمية لحم من وصف قاتليْن اثنيْن بأنهما نبيان، ولا بمن قال (خلص الحوار)، ولا بمن يقسم دومًا بلفظ (ورب الكعبة)، ولا بمدمن عسل النحل الجبلى.

إن من عظمة الإسلام أنه لم يمنُّ بالقداسة على أحد من أتباعه -بمن فيهم العلماء-؛ إنما: «كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم»؛ ولو أطلقت هذه الجملة كما يفهمها الجُهّالُ على جميع من ادّعى العلم لفتحت بابًا من الشر لا يُغلق، ولفسد الدين كما أفسد النصارى دينهم لما أطروا عيسى -عليه السلام- ومن بعده أحبارهم ورهبانهم حتى قدسوهم وجعلوهم كملائكة الرحمن لا يخطئون؛ على الصور الفاسدة التى نراهم عليها اليوم.

لقد لعن الله العلماء البكم، الإمعات كاتمى العلم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) [البقرة: 159]، وهدد بالعذاب من يتاجر بآيات الله ويتكسب منها: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 174]. وحذر النبى من نفر من العلماء، كثرٌ فى هذا الزمان، سماهم أئمة؛ أى لهم سمت ومنصب العلماء لكنهم مخادعون، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين» توكيدًا بأن فى العلماء الصالح والطالح، ليسوا سواء، وأن منهم من يستحق تقبيل الرأس واليدين، ومنهم من يستحق الدعاء عليه، منهم من قال الله فيه (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..) [المجادلة: 11] ومنهم من استحق النار لحديث النبى «من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»، منهم من يفتى بما دل عليه الشرع لا يخاف فى الله لومة لائم، لا يحابى أحدًا ولا ينتظر جزاء ولا شكورًا، ومنهم من يفتى للملك والرئيس والأمير والسلطان؛ بما يوافق أهواءهم، ويحلل جرائمهم، ويجرئهم على دين الله.

العالم إذًا يمكن أن يكون من ورثة النبى -صلى الله عليه وسلم- «العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»، ويمكن أن يكون حليف الشيطان، وكما قال الشاعر (ولو أن أهل العلم صانوه صانهم... ولو عظموه فى النفوس لعُظّما؛ ولكن أهانوه فهان ودنسوا... محياه بالأطماع حتى تجهما).

أضف تعليقك