بقلم: عبد الرحمن يوسف
حكم مبارك مصر ثلاثين عاما، وكانت المعارضة المصرية موجودة في الداخل.
بالنسبة لمن هم مثلي (أعني من دخلوا لعالم السياسة في الثلث الأخير من سنيّ مبارك السوداء)، لم يكن مطروحا في أجنداتنا مسألة معارضة النظام من خارج مصر. كنا نعارضه من داخل مصر، وندفع ثمن ذلك.
سبقتنا أجيال عرفت المعارضة من خارج حدود البلاد، خصوصا في عصر عبد الناصر.
كانت مصر (ومعظم الدول العربية) دولا طاردة للكفاءات والعقول والمعارضين، وكان المعارضون الحقيقيون يلاقون عنتا شديدا من أجل ممارسة معارضة فاعلة، ذلك أن جميع تلك العصور كانت تضع المعارضين في السجون، أو ترسم قواعد اللعبة بحيث يظل الإنسان طوال عمره يعمل دون أن يحدث أي قدر من التغيير (مهما كان ضئيلا)، وبالتالي يستفيد النظام من وجود المعارضين في تلميع نفسه في الخارج، أو التنفيس عن الداخل في بعض الأحيان.
في أواخر عهد مبارك، ضخت دماء جديدة في الحياة السياسية في مصر، وبدأت قواعد اللعبة تتغير قليلا، وانتزعت المعارضة هوامش جديدة للحركة؛ كان من أهمها الحق في نزول الشارع، ومع الوقت حدث التغيير، وقامت ثورة يناير.
* * *
أما اليوم... فعلى رأس السلطة جنرال سيكوباتي دموي، يحاول تأسيس ديكتاتورية جديدة، وأصبح جميع المعارضين في الداخل في داخل السجون! وهامش الحركة داخل مصر يكاد يكون منعدما، بسبب رعب الحاكم من أي تظاهرة قد تستخدمها القوات المسلحة ذريعة للإطاحة به.
أما معارضة الخارج، فهي في تشتت وحيرة.. أما التشتت فبسبب الاستقطاب السياسي، وأما الحيرة فبسبب عدم معرفتها بدورها المطلوب منها.
خلال الأيام الماضية تفاعلت الأحداث، وأصبح موضوع معارضة الخارج مطروحا بشدة، وهذه محاولة للتفكير في الأمر.
* * *
الحالة المصرية ليست الأولى من نوعها، بل هنالك عشرات الحالات في التاريخ القديم والحديث كانت فيه المعارضة منقسمة بين الداخل والخارج.
معارضة الخارج لها أدوار عديدة، كانت كالتالي:
أولا: قيادة حراك الداخل
بالتأكيد، ليست هذه هي الحالة المصرية الآن، ذلك أن تحريك الداخل من الخارج يقتضي أن تكون هناك زعامة واضحة تقيم خارج البلاد، وتملك السلطة المعنوية لتحريك الناس.
حدث ذلك في إيران.. كان الخميني يحرك جزءا كبيرا من الجماهير في داخل إيران، أثناء إقامته في العراق، ثم بعد ذلك في فرنسا.
بل إن هناك حالة مشابهة في التاريخ المصري الحديث، فكان الزعيم سعد زغلول يحرك الجماهير في مصر برغم وجوده في الخارج.
ثانيا: تمثيل الداخل
المعنى، أن يكون الحراك وقياداته داخل البلاد، ولكن لأي سبب اتخذت القيادة قرار انتداب البعض إلى الخارج، أو بسبب تعذر خروج قيادات الداخل، تنقسم القيادات في عدة أماكن (الحالة الفلسطينية مثال واضح على ذلك، منذ الستينات وهناك داخل وخارج).
ثالثا: وجود معارضة في الخارج مع عدم وجود معارضة في الداخل... بمعنى أن تنقسم المعارضة بين سجون الداخل، ومنافي الخارج!
وهذه هي الحالة المصرية الحالية!
* * *
للمعارضة المصرية في الخارج أدوار كثيرة جدا (في رأيي الشخصي)، وغالبية هذه الأدوار لم تتمكن من القيام بها، بسبب الاستقطاب السياسي أولا، وبسبب ضعف الإمكانات البشرية والمادية ثانيا، وبسبب انهيار أداء النخب السياسية ثالثا.
أستطيع أن أقول إن وظيفة المعارضة المصرية في الخارج تتلخص في مهمتين أساسيتين، يتفرع عنهما مهمات كثيرة..
المهمة الأولى: سدُّ فوّهة البندقية التي تطلق الرصاص على أي حراك
مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، وهي مهمة ذات شقين؛ حقوقي وسياسي، وبتوازي العمل على الجبهتين سيكون النجاح.
فهذه الفوّهة لن تُسدَّ إلا بضغوط دولية، وذلك بتحريك ملفات سياسية وأخرى حقوقية، ولو نجحت معارضة الخارج في ذلك ستتحرك الجماهير وتسقط هذا النظام في وقت قياسي؛ لأن الشيء الوحيد الذي يحافظ على وجود هذا النظام... هو البندقية!
والحقيقة، إن معارضة الخارج قد فشلت في تلك الأدوار فشلا ذريعا.
المهمة الثانية: تمثيل الثورة المصرية
قضية التغيير في مصر ليس لها صاحب، وليس لديها لسان!
الدول الكبرى تتعامل مع عشرات، وربما مئات الشخصيات المصرية، ولكنها تتعامل معهم كأفراد، ولا ترى في أحدهم ممثلا للقضية.
وكانت هناك محاولات كثيرة لإنشاء كيانات سياسية قادرة على التحدث باسم القضية المصرية، والتفاوض باسمها في لحظة انهيار النظام، ولكن باءت جميع هذه المحاولات (حتى الآن) بالفشل، بسبب النخب السياسية التي نعرفها جميعا، وبسبب بعض الكيانات التي أنشئت لأسباب مرحلية، ثم تحولت إلى مجرد عصا توقف أي عجلة تنطلق من أجل تحقيق التغيير (وما زالت بعض الأطراف حريصة كل الحرص على الحفاظ على هذه الكيانات لأغراض حزبية وشخصية).
إن استمرار هذا الوضع لقضية بمثل هذه أهمية القضية المصرية أمر في منتهى الخطورة؛ لأن هذه الصفحة حين تطوى ستوضع خطط تؤثر في مستقبل البلاد والإقليم كله، والمعارضة المصرية (برغم ما فيها وما عليها من تحفظات) تمثل غالبية الشعب المصري. ولنا أن نتخيل أن يحرم غالبية الشعب المصري من التواجد على طاولة المفاوضات التي ستحدد مستقبله في لحظة انهيار الوضع الحالي الهش!
* * *
بقيت عدة أسئلة... هل يمكن أن تقوم المعارضة المصرية في الخارج بتحريك الداخل؟
في واقع الأمر، هذا الأمر شديد الصعوبة من ناحيتين: الناحية الأخلاقية، بمعنى أن هناك حرجا في أن يكون نزول الشارع على هذه الدرجة من الخطورة، ثم يكون الداعي للنزول شخص لا يشارك تلك المخاطرة مع الجماهير.
لنا أن نتخيل أن يحرم غالبية الشعب المصري من التواجد على طاولة المفاوضات التي ستحدد مستقبله في لحظة انهيار الوضع الحالي الهش!
الأمر الثاني هو أن الاستجابة لن تحدث، فلا يوجد في الخارج من يستطيع أن يحرك الداخل لمثل هذا الحراك، أعني أنه لا توجد زعامة تملك السلطة المعنوية التي تستطيع أن تقنع الجماهير بتحمل ضريبة النزول للشارع.
قد يقول قائل: ولكن حملة الصفارات التي دعا لها الأخ الأستاذ معتز مطر (المذيع المعروف المقيم في إسطنبول) لاقت نجاحا كبيرا!
وهذا صحيح... ولكن (في رأيي الشخصي) لا توجد أي مشكلة أخلاقية في ذلك؛ لأنها فعالية آمنة تماما، واحتمال حدوث أي اعتقالات بسبب المشاركة في هذا الأمر تكاد تكون معدومة.
إن هذه الدعوة تشبه دعوة بعض المعارضين في الخارج للنزول للتصويت في استفتاء الدستور القادم، فهو أمر لا يحمل مخاطرة أمنية.
لذلك ليس من العدل صب الغضب والاتهامات المجانية على مطلق هذه الدعوة، خصوصا أنه دفع أثمانا غالية من أجل كلمة الحق. فلا ينبغي أن ننسى أن هذا الرجل قد قتل النظام أباه، وسجن كل أقربائه الموجودين في مصر تقريبا، ومن حق كل مبتل أن يتحرك لرفع البلاء عن نفسه وعن الآخرين.
لذلك، ليس من الطبيعي ولا من المقبول أن تتم المزايدة عليه بالطريقة التي استسهلها البعض.
أما مسألة أنه ليس من واجب ولا من شأن مذيع أن يطلق مثل هذه الدعوة... فهذا كلام سليم، ولكن كيف نطالب الناس بانتظار تلك النخب إلى الأبد؟ كيف في ظل وجود عشرات الآلاف من المعتقلين أن ننتظر هذه النخب المحنطة حتى تتوافق وتصطف؟
إن تفاعلات الساحة السياسية في مصر ضخمة، والبلاد مقبلة على أمر جلل، طال الزمان أو قصر، وانهيار هذا السيكوباتي مسألة وقت.
ومن الأفضل لمصر أن تتجمع المعارضة المصرية الموجودة في الخارج، وأن تحاول أن تسدّ فوّهة بندقية "سيسي"، وأن تنشئ الكيان الذي يمثل جميع المصريين باختلاف مشاربهم، لكي يكون الشعب حاضرا برؤيته في لحظة التغيير.
أضف تعليقك