بقلم: وائل قنديل
ما الذي دفع عبد الفتاح السيسي في 2019 للنبش في تواريخ 2011، وبالتحديد أحداث شارع محمد محمود التي أظهر معها المجلس العسكري عداءه الصريح لثورة 25 يناير من العام نفسه؟.
الشاهد أن يناير الثورة لا يزال يمثل العقدة التاريخية للسيسي ومجموعة الجنرالات الذين حجزوا لأنفسهم مكانًا في مزبلة التاريخ، بإقدامهم على إعلان حرٍبٍ استخدمت فيها أسلحة كيمائية مجرّمة دوليًا ضد المتظاهرين، فلا يجد سوى ترديد حزمة الأكاذيب القديمة/ الجديدة عن تلك الأيام التي صمد فيها الثوار ببسالة، وانتهت بإجبار المجلس العسكري على إعلان موعدٍ للانتخابات الرئاسية، وتسليم السلطة.
السيسي، وهو يعلن عسكرة مرفق السكك الحديدية بتعيين اللواء كامل الوزير، الذي عنّفه في مؤتمر متلفز، وأظهره جاهلًا بهندسة الطرق، وزيرًا للنقل، مع ترقيته إلى رتبة الفريق، تطرق إلى أحداث شارع محمد محمود، تلك الأحداث التي فتحت مزبلة التاريخ لدخول الجنود والضباط والقادة الذين أشرفوا على عملية ذبح الثورة والثوار في ميادين الكرامة، من أصغر جندي وأصغر ضابط سحلا متظاهراتٍ على الأسفلت، وألقيا جثث متظاهرين فوق أكوام القمامة، إلى أكبر مسؤول أصدر الأوامر بشن الحرب على شعب أعزل.
لماذا أحداث شارع محمد محمود، تحديدًا، دونًا عن باقي محطات الثورة، كانت مثار اهتمام السيسي للتذكير والتلويح بها، وهو يعيّن جنراله وزيرًا للنقل؟ حين وقعت تلك المجزرة، قلت إنه ينبغى على القوى الحاضنة هذه الثورة أن تكون قد بدأت فى توثيق الجريمة، وتجميع أدلة الاتهام ضد مرتكبيها، كي لا نقع مرة أخرى فى خطيئة الغفلة والكسل التى أوجدت ثغراتٍ فى قضية قتل شهداء يناير، من اختفاء التسجيلات وإعدام وثائق الإدانة، وإخفاء معالم الجريمة. وطالبت وقتها علماء مصر المحترمين بأن يدلوا بدلوهم فيما قيل عن استخدام غازاتٍ سامة، نتج عنها وفاة عشرات الثوار فى أحداث ميدان التحرير، وأن يبدأوا فورا فى أخذ عيناتٍ من هواء الميدان وتحليلها، خصوصا أن الكلام كثير عن فوارغ قنابل الغاز، المكتوب عليها أنها منتهية الصلاحية منذ سنوات، وبعضها من النوع غير المسموح باستخدامه دوليا، حيث كان الثوار يحتفظون بأكوامٍ من فوارغ المقذوفات والقنابل.
معلوم أن تلك الأيام حملت معها فالقًا مخيفًا في الكتلة الثورية، ومثّلت البداية الفعلية لشقّ الصف، وأسفرت عن فسطاطيْن، لا يزالان يتلاومان ويتعاتبان ويتراشقان باتهامات الخيانة والبيع، حتى الآن، إذ اختارت تيارات الإسلام السياسي، في ذلك الوقت، ما يمكن تصنيفه اصطفافًا مع المجلس العسكري في مواجهة باقي قوى الثورة، واندلاع فتنة "الميدان والبرلمان"، حين كانت الدماء تتدفق ساخنًة على الأسفلت، بينما القوم الذين أظهروا بسالةً لا يمحوها التاريخ في موقعة الجمل، أداروا ظهورهم للميدان، وولّوا وجوهم شطر انتخابات البرلمان، فكانت تلك الندبة الغائرة في وجه الثورة التي لم تندمل بعد.
يلمح السيسي روحًا جديدة تحاول الانعتاق من مرارات الماضي، وتحاول أن تستعيد وحدة ثورة تبدّدت، فقرّر أن يضع ملحًا على الجرح، ويوقظ تلك المعارك العبثية مجدّدًا. ومن ناحية أخرى، يحاول تجميل تلك المعركة التاريخية بنثر ورد الأكاذيب على ما جرى، من دون تجديد، إذ يردّد ما قاله عضو المجلس العسكري في ذلك الوقت إن ثوار "محمد محمود" يريدون هدم الدولة، وتبعته جوقة الكذابين التاريخيين تنتحب، وتحذر من الأساطيل الأجنبية المتوثبة في أعالي البحار للانقضاض على الوطن.
هذه المرة، لا يكتفي السيسي بمضغ أكاذيب هدم الدولة، ويذهب أبعد من ذلك إلى تحريض الأسر المصرية على أبنائها، الذين لا يزالون يتذكّرون ثورتهم، ويتوقون إلى العودة إلى الميادين، عرفانًا لدماء أقرانهم من الشهداء الذين دفعوا أرواحهم ثمنًا للحلم بوطنٍ إنسانيٍّ وعادلٍ ومتحضر، من جمعة الغضب إلى موقعة الجمل، مرورًا بأحداث ماسبيرو، ثم محمد محمود، وبعدها مجلس الوزراء، وصولًا إلى مجزرة القرن في ميدان رابعة العدوية وأخواتها.
يزيّف السيسي التاريخ، ولم لا وهو يرى رموزًا ثورية تمارس اللعبة ذاتها، تبرئةً للأنا على حساب المجموع، ومن لحم الحقيقة الحي؟. هم ينبشون التاريخ، فلم لا أفعل أيضًا، يقول السيسي، ثم يختار تلك النقطة الملغومة التي ما أن تفتح حتى تنفجر بركانًا يعصف بالذاكرة، ويقضي على ما تبقى من فرص، للملمة ما تبعثر، وترميم ما تصدّع؟
أضف تعليقك