بقلم: سيف الدين عبد الفتاح
انشغلت في السابق بموضوع رأيته من الأهمية بمكان ألا وهو موضوع النقد الذاتي المتعلق بعالم الأفكار والأشخاص والتنظيمات والتكوينات، والمواقف والاتجاهات. ورأيت أنه من المناسب أن أستأنف سلسلة جديدة من المقالات تتعلق بعالم الأحداث المتتالية، نقرأ في الحدث المعنى والمغزى، ذلك أن متابعة الأحداث الكاشفة والتوقف عند الفارقة منها هو أمر في غاية الأهمية.
إن قراءة الحدث هي جزء لا يتجزأ من قراءة الاعتبار والاستثمار، فهي تكشف عن أحوال كثيرة. وعالم الأحداث يشكل تنوعا كبيرا سواء تعلق بالفرد أم بالجماعة، وسواء اتصل بأحداث سياسية أو اقتصادية، بأحداث اجتماعية أو ثقافية، ولكن الوقوف عند حدث بعينه قد يتطلب تحليلا لا يقف عند حدود المتبادر منه ولكنه يغوص لالتقاط الكامن فيه، ومن المهم أن نتوقف عنده لنرى أهميته والتماس الفائدة منه، قد يكون الحدث عابرا وربما يكون خفيفا إلا أنه على خفته قد يكون ثقيلا في مغزاه، عميقا في دلالته ومعناه، هنا فقط يمكن أن نتوقف عند الأحداث الكاشفة الفارقة.
كتاب مفاجئ
حدث اليوم فعل مليء بالعجب والسخرية ولكنه يحمل من الدلالة الشيء الخطير والكبير، داخل مؤسسة "روز اليوسف"، إحدى أعرق وأكبر المؤسسات الصحافية في مصر، وقعت أحداث قصّة مضحكة مبكية، تمّ على إثرها إعدام كتابٍ يحمل عنوان "فضائح السيسي بيه". في مخزن روز اليوسف اكتشف المسؤول عنها أن كتابا خطيرا موجودا بنسخ عدة، وتقول تفاصيل تلك القصة التي روتها مصادر مطلعة داخل المؤسسة إن موظفين من "روز اليوسف" التي تمتلك مطابع ضخمة كانوا يقومون بجرد المخازن التي تحتوي على الكتب والإصدارات الخاصة بالمؤسسة، وإذا بهم يعثرون على عدد من نسخ كتاب للكاتب الساخر الراحل يوسف عوف، فكانت المفاجأة بعنوان الكتاب "فضائح السيسي بيه"، والذي صدرت طبعته الأولى عام 1994، انقلب المكان واجتمع الناس وصرخ المسؤول ما هذا الكتاب المدسوس، هل تم دسه على المكتبة في جنح الظلام؟ لابد أن نرى من ذلك المجنون الذي ألفه، ولابد أن نعدم نسخه ولابد من استدعاء مؤلفه حتى يمكن ليس فقط سؤاله بل محاكمته. من يجرؤ أن يتحدث عن فضائح "السيسي بيه"، الأمر جلل وخطير، فالسيسي هو الرئيس، وهنا بعد هذا الاكتشاف المريع وجد الناس حقيقة مرة، فما هي تلك الحقيقة التي يحملها هذا الكتاب؟
لم يعرف موظفو الجَرد ماذا يفعلون بالنسخ التي عثروا عليها من الكتاب القديم فوضعوها في إحدى زوايا المخزن لحين البت في أمرها، ثم انتشر الخبر بين صحافيي وموظفي "روز اليوسف" فتولى أحدهم ممن لهم علاقات وطيدة مع الأجهزة الأمنية الإبلاغ عن وجود الكتاب الذي يحمل عنوان "فضائح السيسي بيه" في المخازن. وعلى الفور اتصلت الأجهزة الأمنية بإدارة المؤسسة التي يرأس مجلس إدارتها عبد الصادق الشوربجي لتسأل عن أسباب وجود هذا الكتاب، فما كان من الإدارة إلا أن أمرت بجمع كل النسخ الموجودة من الكتاب وفرمها وعدم الإبقاء على أي منها. اجتمع الجميع على أنه لابد من التخلص وإعدام نسخ الكتاب الذي تجرأ واتخذ هذا الاسم، وكانت الفاجعة الكتاب أٌلف وطٌبع في العام 1994، وقبل أن يقوم زبانية السيسي من المحامين برفع البلاغات حول مؤلف الكتاب والقبض عليه اكتشفوا أن المؤلف قد مات، وهنا كان من المهم أن يقوم هؤلاء بتصفح الكتاب، والتعرف على المؤلف الساخر الذي رحل، لقد اختار للكتاب هذا العنوان عفوا ورمزا " فضائح السيسي بيه ".
أسلوب ساخر لكنه هادف
ويعتبر كتاب "فضائح السيسي بيه" أحد أهم مؤلفات يوسف عوف التي تميزت بالأسلوب الفكاهي الغارق في السخرية، والذي ينقل القارئ معه في رحلة خيالية إلى إحدى هيئات القطاع العام التي استشرى فيها الفساد، فيقرأ فضائح نشرت في الصحف كما يقرأ معلومات مثيرة أخفتها ملفات التحقيق عن انحرافات وجرائم استغلال نفوذ داخل تلك الهيئة بأسلوب ساخر يثير الضحك أحياناً ويثير الأسى في أحيان أخرى.
ومن المسائل الدالة في هذا المقام تلك المقدمة التي كتبها مؤلف الكتاب وهو يتحدث عن كل رئيس فاسد على كل رئيس يستغل النفوذ، في الإهداء يهدي كتابه "الى كل مرشح لرئاسة قطاع في الدولة، ويرغب في الاطلاع على نماذج من الأفعال والتصرفات التي يمكنه أن يمارسها ـ دون أدنى مساءلة ـ في قطاعه أثناء رئاسته له"، واختار كما يشير هو في صفحة الكتاب الأولى شخصية وهمية استقر أمره على اختيار الاسم على هذه الشخصية فكان الاسم "السيسي"، هكذا كان هذا الحدث يعبر عن أشياء كثيرة :
من المؤسف حقا أن ترى أن فضائح السيسي الجديد الطاغية، تفوق فضائح السيسي القديم "السيسي بيه"
أول هذه الأشياء جوقة المنافقين الذين أصابهم الذعر من وجود كتاب كهذا وحال الطوارئ الذي استنفر الجميع، وهول المصيبة التي وقعت، تعلق هؤلاء بعنوان الكتاب الذي تصادف أن يكون تعبيرا سلبيا عن كل رئيس يمارس فساده العظيم ونفوذه الكبير، وبدا الأمر بالنسبة لهم شأنا خطيرا لم يكلف أحد خاطره أن يتعرف على ملابسات الكتاب أو مؤلفه الذي مات، ولكن حال الاستنفار جعلهم في حالة ذعر جماعي يتأهبون لإعدام الكتاب وصاحبه، ربما كانوا أيضا سيبحثون في حضرة نفاقهم عن اتهام لإخواني داخل المؤسسة حاول أن يدس الكتاب وهو مسؤول عن تسريبه والاحتفاظ بنسخه، لم يكلف هذا خاطره أن يتعرف على سنة الطبع ولا عن طبيعة الكتاب ولا عن طبيعة المؤلف الساخر الذي خطه بيمينه واختار له اسم شخصية وهمية، صادف أن يكون الاسم السيسي، هكذا جوقة النفاق، تشكل حالة نفسية جماعية حقيرة ودنيئة، إنها قابلية التنكيل الخطير والنفاق الحقير.
أمر ثانٍ في قراءة هذا الحدث ربما أيضا يشير إلى ذاكرة بعض هؤلاء الذين لاحظوا في يوم ما أن بيتا لقزم الحصان في حديقة الحيوان أنه "بيت السيسي"، فطن بعضهم أن الأمر لا يليق ومن ثم اجتمع حكماء حديقة الحيوان ليعقدوا مجلسا طارئا ليعدلوا عنوان المكان، بدلا من "بيت السيسي" أسموه "بيت الشتلاند"، إنها أيضا مصادفة أخرى استنفرت هؤلاء من جوقة النفاق ولكنها كانت من الأمور التي جلبت مزيدا من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، كان ذلك أمر يتعلق بذاكرة الحدث الجديد الذي أوردناه.
أما الأمر الثالث فهو يتعلق بمصادفات لا تأتي إلا بالكشف عن مسرحيات هزلية، ولكنها من المصادفات العجيبة أن تأتي بمواصفات حقيقية، ما إن انتشر ذكر الكتاب إلا وطفقت أعداد غفيرة لتنزيل نسخة الكتب، وتوالت بعض التعليقات تعلن حالة من التمني أن يكون ذلك الكتاب بعنوانه كتابا حديث التأليف، يتناول فضائح السيسي الجديد ـ من المؤسف حقا أن ترى أن فضائح السيسي الجديد الطاغية، تفوق فضائح السيسي القديم "السيسي بيه"، ذلك أن السيسي الطاغية الجديد لم يكن فاسدا فحسب ولكنه طاغية قتل الآلاف واعتقل آلاف العشرات واختطف قسريا المئات وعذب الآلاف وطارد كل الثوار، إن فضائح السيسي بيه التي أشار إليها "يوسف عوف" هازلا بشخصية افتراضية مصادفة، لا تقارن بفضائح الشخصية الحقيقية للسيسي الطاغية.
أضف تعليقك