بقلم: د. سيف عبدالفتاح
من الآن فصاعدا، لن تكون مشاهد الثورة والثوار بحال سيدة المشهد والمتفردة به. تؤكد قراءة في ما يحدث من مشاهد متداخلة هذا المعنى، ذلك أن الثورات المضادة، من خلال خيارات أساسية وسياسات ومواقف استراتيجية، حاصرت كل بلاد الثورات العربية ومحاولة الالتفاف على ثوراتها بشكل أو بآخر. استطاع هذا الحلف المضاد للتغيير أن يحول مشاهد الثورة والاحتجاج والأمل في التغيير والتعبير عن إرادات الشعوب إلى حالاتٍ من الحروب الأهلية المصنوعة والمصطنعة، كما نرى في اليمن وليبيا، والانقلابات العسكرية كما رأينا في مصر، والتهجير القسري والإبادة الجماعية كما نراه في سورية.
وبملاحظة بسيطة، لا تحتاج إلى مزيد من عناء أو بذل جهد في الدراسة والبحث، سنرى أن دول الثورات العربية هي التي أصابها ما أصابها من ذلك الحلف من المضادين للثورة. وجّه المضادون للثورات رسالة ظاهرة وخفية؛ أن على هؤلاء الذين يحاولون التغيير أن يتوقفوا عن المطالبة به، وإلا ستكون التكلفة عالية والتضحيات غالية لا يمكن تحملها، هذه هي الرسالة التي أرادها هؤلاء لتوجيهها إلى شعوبٍ أرادت الحياة والتغيير.
قام هؤلاء بألوانٍ من العمل، دفعوا وأنفقوا فيه المليارات، ونشبت الحروب، واصطنعت على أعينهم، واشتروا السلاح لقوىً بعينها، حتى تحدث الفوضى، وتمكن لحروب أهلية مفتعلة في أسبابها طاحنة في أشكالها، فمع دعم إقليمي حقير وخطير، أراد أن يئد هذه الثورات في مهدها، ليؤكدوا أن التغيير والطلب عليه صار من المحال وليس له من مجال. هكذا أراد هؤلاء من خلال تمويل مجموعات قادت الحالة المضادة للثورات، والتفّت حولها وحاصرت أهلها بكل الأشكال، وفي النهاية طاردتهم إلى منافيهم في بلاد شتى. إنه العقاب الذي قرّر هؤلاء المضادون للثورة لكل من تجرّأ على المطالبة بالتغيير، عقابا للشعوب، بأنظمة فاشية استبدادية، وبحروب أهلية ماجنة، وحروب مصطنعة، يسقط فيها من الضحايا كل يوم بالعشرات، ومن دون رحمة، بدءًا من الأطفال ومرورا بالشباب وطلاب المدارس وطالباتها وانتهاء بالشيوخ والكبار. لا يستثنى من ذلك أحد، الكل تحت الاستهداف وتحت القتل، وحتى لا نسمع اعتذارا من هنا أو هناك في حال سقوط ضحايا من المدنيين، بل كل ما نستمع إليه إحالاتٌ من المسؤولية، وتنصل منها من كل طريق، هذا هو حال بلاد الثورات العربية.
"معمل الثورات والاحتجاجات الذي تعتمل فيها إرادات الشعوب تؤكّد أن الثورات لا يمكن أن تموت" بأسلحته، وبإسنادٍ من السعودية والإمارات ومصر، يقوم بعملٍ مأجور ومصنوع، دق أبواب طرابلس الغرب بالأسلحة الثقيلة، وكل أنواع الأسلحة الحربية، يضرب المطارات المدنية، ويقتل من المدنيين بلا حساب، ويهدّد الجميع، طالبا منهم أن يرفعوا راية بيضاء لطلب أمانهم، بعد أن جمع كل مرتزقيه من كل جنس ولون، ليقطع الطرق على الآمنين بصناعة الحرب. إنها حرفته، لا تهمه في ذلك أصوات تدينه أو استنكارات تشينه. يمضي في طريقه في حملات عسكرية تأديبية للإغارة على كل الشعب، وبمعاونة بعض الدول الغربية، وبتواطؤ دولي يلفه الصمت أحيانا، أو الإدانة على استحياء حينا.
ماذا يريد هؤلاء أن يقولوا لبلاد الثورات وأهلها. لا يصدرون فحسب أبواقا تشوه معنى هذه الثورات المجيدة التي تعبر عن إرادة الشعوب وأشواق التغيير، بل أرادوا أن يصدروا كل أشكال اليأس والإحباط من أي تغيير بما افتعلوه من كلفةٍ عاليةٍ من الأرواح والدماء والضحايا، ومن الإبادة والتغيير ومن الاعتقال والمطاردة. عمليات بعضها من بعض يشكل فيها هؤلاء المضادون للثورة متحالفين مع نظم مستبدة ودول إقليمية ترتعب من أي صيحةٍ للتغيير، فتطلق كل آلات التدمير وتشريد الشعوب، مهما دفعوا من مليارات. وتكتمل حلقات هذا التعاون المأفون، حينما تنضم إليه الدول الغربية ذات المصالح والكيان الصهيوني، ليزف هؤلاء إلى حفلات التطبيع، كما يقومون على أرض هذه البلاد بحملات الترويع، في إطار تركيع هذه الشعوب واستعبادها، عاملة على إفقارها وتجويعها، يتقصون كل فعلٍ يؤدي إلى خراب العمران وإبادة للمواطن الإنسان وتخريب الأوطان. حلف دنيء لا يرى إلا مصالح ضيقة متوهمة في وأد كل مطالبات بالتغيير أو ممارسات الاحتجاج.
"بعد كل هذا العمل المتراكم والممنهج لمحاصرة الثورة والثوار، انشقت أرض بلاد أخرى لتخرج ثورة وثوارا" لتخرج ثورة وثوارا. ينتفض أهل السودان في مواجهة شاملة للاستبداد الذي طال. وها هي الثورة تنطلق في أرجاء الجزائر، يحملها الأحرار، ويؤسس لمطالب الثورة والتغيير، في ظل حرص المضادين للثورة على مواصلة أفعال وأدهم. نبتت ثورات أخرى، مستأنفة في موجة ثانية منها، فطاش لبهم وبطشت أفعالهم وامتشقوا، مرة أخرى، سلاح التدمير والتخريب، لم يطيقوا أن يشهدوا مشهد ثورات جديدة، فألفوا مشهدا مضادا قرب هاتين الثورتين في ليبيا، وكأنهم لا يريدون أن ينفرد مشهد الثورات المستجدة بمساحات الاهتمام، وقد دقّت مضاجعهم، فطفقوا من فورهم يخطّطون لتهديد تلك الثورات. ومن ثم، كما جاء، في صدر هذا المقال، لن ينفرد مشهد الثورات مرة أخرى بالمشهد العام من خلال اصطناع هؤلاء الذين يضادون للثورات، واستثمار الحلف المضاد لأشواق الثورة والتغيير.
ليست الثورات المضادة عملا عفويا، ولا تعبر عن الذين أضيروا من جراء حالة ثورية هنا أو هناك، ولكنها صارت عملا مدبرا ومؤسّسيا وممنهج، يقوم به حلف مدمر من المضادين للثورات بسند إقليمي ودولي، وأن معمل الثورات والاحتجاجات الذي تعتمل فيها إرادات الشعوب تؤكّد أن الثورات لا يمكن أن تموت، وأن أشواق التغيير لا يمكن، بأي حال، أن تنطفئ جذوتها، وأن الثورات، أو بعضها يمكن أن تنتكس، ولكنها ستخرج في أرض جديدة، وبلا حساب، لتؤكد، من جديد، إلهام الثورات بعضها بعضا في كل بقاع الأرض، لتعبر عن حقيقةٍ يجهلها هؤلاء المضادون للثورات؛ أن الثورات لا يستطيع أي أحد، كائنا من كان، أن يوقف مدها أو يجمد حركتها. فعل الثورات فعل حي، ما دام الناس أحياء، والأحياء بإرادات الشعوب الذين لا يريدون إلا الحرية والكرامة، يؤكدون بطلبهم التغيير أن الثورة ليست بسماح أحد، ذلك أن أشواق التغيير قائمة، والتغيير قادم لا محالة، وحقيقة الثورات أكبر من مؤامرات المضادين للثورات وقدراتهم مهما عظمت، ذلك أن إرادات الشعوب أقوى وأمضى، هذه هي القضية الكبرى التي تطرح درس الثورات للثورة والثوار، وللمضادين للثورة الخائفين من التغيير والمرتعبين منه على حد سواء.
أضف تعليقك