بقلم عزام التميمي
أذهلني بالأمس ما سمعته من مداخلات عبر برنامج "تصريح مواطن" الذي تبثه قناة الشرق وتقدمه الإعلامية المتألقة فيروز حليم. كانت معظم المداخلات في حلقة الاثنين ترد من سيدات مصريات يعشن داخل مصر. تحدثت المتصلات بمرارة حول ما آلت إليه الأمور في ظل حكم الطاغية العابث بمقدرات الأمة المصرية عبد الفتاح السيسي.
لا يكشف حديث المتصلات عن مستوى راق في الوعي لديهن فحسب، بل ويشهد بنجاح حملة "باطل" التي كانت قد أطلقتها شخصيات ريادية في المعارضة المصرية قبل أكثر من أسبوع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف التصدي لمسعى السيسي إدخال تعديلات على الدستور المصري تسمح له عملياً بالبقاء في السلطة حتى عام 2034، أي إلى أن يكون قد بلغ الثمانين من عمره، وتمنحه صلاحيات واسعة من بينها صلاحية التحكم بتعيين القضاة والنائب العام.
كان واضحاً أن السيدات المتصلات إنما حفزهن على الاتصال بالبرنامج للتعبير عن سخطهن على السيسي ونظامه النداءات التي وجهها أصحاب حملة "باطل" إلى الجمهور المصري في الداخل والخارج بالمشاركة في التوقيع على عريضة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتعبير بأمان عن آرائهم في التعديلات الدستورية قبل الاستفتاء الرسمي الذي تنظمه السلطات ويتوقع أن تزور نتائجه ليحقق لها مرادها منه.
ورغم أن هذه الحملة تجري في الفضاء الإلكتروني، إلا أنها أزعجت النظام أيما إزعاج، وسببت له الارتباك الشديد، ودفعته نحو التدخل لحظر المئات من المواقع الإلكترونية بهدف ضرب حجاب بينها وبين الناس. ولربما زاد من قلق النظام أن الحملة توافقت مع التطورات المتسارعة في الجزائر والسودان، حيث انبعث الربيع العربي من جديد.
ليست هذه هي الحملة الأولى لأنصار الديمقراطية في مصر، والأغلب أنها لن تكون الأخيرة. فرغم جسامة الضربة التي تلقتها ثورة الشعب المصري، والجراح الغائرة التي أعملتها معاول الثورة المضادة في جسدها، إلا أن الحراك المناهض للانقلاب ولحكم العسكر لم يتوقف بتاتاً منذ مسرحية الثلاثين من يونيو 2013، بل ومنذ بدأت تحاك مؤامرة الانقضاض على المسار الديمقراطي بدعم إماراتي سعودي ومكر صهيوني وتواطؤ غربي.
إلا أن الجديد في الأمر أن الناس في مصر بدأت تتجاوب بشكل متزايد مع هذه الحملات، ولا يقتصر التجاوب على فئة دون غيرها، فجميع فئات الشعب باتت تئن تحت وطأة الحكم القهري، الذي سلبهم عيشهم وحريتهم وكرامتهم، وربما كانت أكثر هذه الفئات معاناة هي النساء، فهن المواطنات المتأذيات مثلهن في ذلك مثل جميع المواطنين الذين حرمهم السيسي وعصابته من عيش كريم آمن. وهن في نفس الوقت الأمهات والأخوات والبنات والزوجات لعشرات الآلاف من الرجال الذين زج بهم الانقلابيون في السجون أو ألجأوهم إلى المنافي أو أزهقوا أرواحهم فصاروا تحت الثرى.
كان أصحاب الثورة المضادة قد تمكنوا في الشهور التي سبقت الانقلاب من ضرب أسافين في معسكر الثورة مستغلين أطماع فئات معينة وجهل أو عدم مبالاة قطاعات معينة من الناس، الأمر الذي مكنهم من وأد حلم المصريين في التحرر من أصفاد الاستبداد والقهر والفساد. إلا أن بإمكاننا اليوم أن نشهد بطلان السحر، بل وانقلابه على الساحر، إذ يتجدد الحراك الشعبي المصري بصمت وهدوء، يحفزه على ذلك تمادي السيسي وأعوانه في العبث بالبلاد والاستخفاف بالعباد، كما يحفزه انطلاق تحركات جماهيرية واعدة في الجزائر والسودان، أثبت المشاركون فيها، من رجال ونساء وفتيان وفتيات، أنهم تعلموا دروساً مهمة مما حصل من قبل في دول الربيع العربي التي سبقتهم إلى الثورة، وعلى رأسها ألا تنطلي عليهم حبائل المستبدين ولا أطماع أصحاب الطموحات الفئوية أو الطائفية أو الحزبية.
قبل أسابيع انطلقت حملة عرفت باسم "اطمن .. إنت مش لوحدك" أتاحت للمصريين التعبير عن سخطهم من نظام السيسي. والآن جاءت حملة "باطل" لتحقق ما هو أكثر من ذلك، وتحديداً إظهار ما الذي يمكن أن تكون عليه النتيجة الحقيقية لو كان الاستفتاء حول التعديلات الدستورية نزيهاً.
يعلم السيسي، ويعلم جنوده وأعوانه، ويعلم ذلك يقيناً داعموه وممولوه إقليمياً ودولياً، أن الناس إذا ملكوا حرية التعبير وحرية الاختيار وحرية القرار فلن تبقى لمنظومة الاستبداد التي يديرونها من باقية، ولذلك فهم يزورون الانتخابات ويزورون إرادة الشعب ويفترون عليه، ويحاربون بلا هوادة كل من يرون في وجوده تهديداً لهم، ويخفون قسراً كل من تسول له نفسه انتقادهم ولو من طرف خفي، ولا أدل على ذلك أن المئات ممن كانوا معهم، وممن كانوا يباركون أعمالهم ويشدون على أياديهم، باتوا اليوم وراء القضبان أو في المنافي.
يُعلّمنا التاريخ أن ثورات الشعوب التي تنهض بالأمم لا تتم إلا بعد مخاضات مؤلمة وعسيرة، ولا تكتمل إلا بعد جولات وصولات، ولا يكتب لها النجاح إلا بعد حسم نتيجة معركة الوعي لصالح الجماهير. كانت حملة "اطمن" أداة من أدوات النضال في معركة الوعي تلك، ثم جاءت حملة "باطل" لتعري نظام الانقلابيين وتكشف هشاشته وتهافته.
كما يُعلمنا التاريخ أن أمتنا، التي طالما تعرضت لغزو وقهر واستعمار، تحتاج في سبيل نهضتها واستعادة مجدها لأن تتحرر مصر من أغلالها، وتقف على أقدامها، وتشكل حصناً منيعاً في وجه أعداء الأمة. وها نحن اليوم نشهد بداية حراك جاد في مصر يؤهلها للانضمام إلى الجولة الثانية من ثورات الشعوب العربية. قد تكون هذه الجولة هي الخاتمة، وقد تكون مجرد جولة أخرى ستتبعها جولات. ولذلك لا مجال ليأس ولا لإحباط، بل هذا أوان الكد والجد والعمل الدؤوب إلى أن تنتصر الشعوب ويهزم أعداؤها. "وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
أضف تعليقك