بعد نحو ست سنوات من انقلابهم على الرئيس المنتخب وحكومته، ينقلب العسكر اليوم على الدستور، بعد الاعتداء عليه ومناوشته عام 2014؛ ما يعد إطاحة بما تعارفت عليه الدول الحديثة من تداول السلطة والشفافية وحقوق الإنسان؛ إذ بعد هذا الانقلاب الذى أطلقوا عليه زورًا «التعديلات الدستورية» لم تبق حتى ورقة التوت لتغطى سوءة هذا النظام، الذى وضعنا فى مؤخرة الدول، وجلب لنا الفقر والعوز.
ولا أعتقد الآن أن هناك بلدًا ينافسنا فى هذا الانحدار؛ من ثم يحق لعلماء السياسة أن يدرسوا مصر خلال الست سنوات المنصرمة كحالة فريدة من حالات التدهور السياسى، بل إن مشاهد ما جرى فى هذا الاستفتاء كافية لرصد حالة من حالات الجنون السلطوى المقترنة بالتدليس ودغدغة المشاعر باسم الوطنية الكاذبة.
تزوير فاضح واستخفاف بدءًا بما يسمى «الحوار المجتمعى» مرورًا بالحملات الإعلامية الكاذبة وجلسات (البرلمان!) المضحكة، وانتهاء بـ«حشود!» يوم الاستفتاء التى جاءت بالقهر والإجبار؛ للإيحاء -خصوصًا للعالم الخارجى- بأن الشعب موافق على هذه «التعديلات». لقد أخرجوا موظفى الدولة جميعًا للتصويت، مهددين الممتنعين بالعقاب، وفعلوا الأمر نفسه مع المعلمين، وطلاب الجامعات، وشركات القطاع الخاص الكبيرة، ومقاولى الأنفار فى المشروعات الحكومية والخاصة. كل هذا لضمان وصول أكبر عدد من المواطنين إلى اللجان التى وقف أمامها المصورون ومندوبو الصحف لأخذ اللقطات وإرسالها إلى مواقعهم، وقد فاقت أعدادهم أعداد من حضروا للإدلاء بأصواتهم.
وأمام إحجام الشعب عن النزول، وإصراره على تعرية الانقلابيين لعلمه بكذبهم وفسادهم، لجأ الفاشلون إلى العنف لإجبار المواطنين على التصويت، وقد شاهدنا ضباطًا يرغمون شبابًا على النزول من سيارة «ميكروباص» للتصويت، ورأينا عمالاً من محال صغيرة بصحبة عناصر من المباحث لإكراههم على الوصول إلى اللجان. ناهيك عن حشد المسجلين خطر، وتقديم الرشاوى الانتخابية علانية وقد تعددت صورها من كراتين مواد غذائية، وأموال نقدية، وبونات للصرف من وحدات التموين أو من إحدى السلاسل المعروفة إلخ.
الصورة كلها شائهة ومقززة، شاهدنا أثناءها استغلالًا مقيتًا للفقراء والمحتاجين، وإخضاعهم لرغبات المجرمين بالرقص أمام اللجان، أو الادعاء -زورًا- بأن العسكر جعلوهم فى نعيم بعد أن كانوا فى ضنك العيش. جاء ذلك بعد تخويفهم وإطلاق الشائعات بأن على هؤلاء الفقراء إما التوجه إلى اللجان والتصويت بنعم أو دفع غرامة كبيرة وتعطيل بطاقاتهم التموينية. واكتملت الصورة بشاعة عندما وقف هؤلاء المساكين أمام سيارات الجيش وجنودها يلقون إليهم بكراتين تافهة -هى فى الحقيقة من أموالهم- وهم يتدافعون لالتقاطها، فى منظر لا تجده حتى فى معسكرات اللاجئين.
أما الأشد بشاعة فهو موقف حزب اللحى الذين يدعون أنهم سلف، والسلف برآء منهم، وكذلك موقف الكنيسة؛ فكلاهما ضرب المثل فى النفاق الرخيص والجهر بالسوء، وما كان لأحد أن يؤيد هذا العبث إلا أن يكون على شاكلة من يقومون به، مشاركًا لهم فى الجرم، وهؤلاء وأولئك- حزب اللحى والكنيسة- بالغوا فى التأييد حتى أتوا بأفعال لا يقرها عقل ولا دين..
الحاصل: أن ما جرى تكريس للتخلف والفساد، ورعونة لا تفعلها إلا العصابات، وجرأة على الحق وتحد ما رأينا مثله من قبل، وإذا كانوا فعلوا كل هذا لتحصين أنفسهم ضد المحاسبة، يعاونهم فى ذلك نظام عالمى متواطئ؛ فإنا على ثقة تامة بأن هذا الزور ليس له أسس تسنده أو جذور تجعله قادرًا على الوقوف على قدميه، وسرعان ما سينهار مع أول صدمة يواجهها، وما أكثر الصدمات المقبلة؛ وأولاها ذلكم الشباب الذى لم نره مؤيدًا لهذا الزيف، ولم يقف أحدهم أمام لجنة أو فى غرفة تصويت، عكس ما جرى عامى 2011، 2012، وهذا الشباب لا يغره هذا التمثيل، ولا يصدق الإعلام المدلس ولا تصريحات الساسة الفاسدين، إنما ينتظر ساعة التطهير، يوم تنفد حيل هذا النظام فيدع البلد ضائعًا خربًا؛ ساعتها سوف يحاسب هذا الشباب من أجرموا فى حقه، ومن أوصلوا المحروسة إلى هذه الحالة من الانقسام والفساد والضياع.
ولو كان لهؤلاء ضمير لأنفقوا على الفقراء والمعدمين وعلى الخدمات ما أنفقوه على الدعاية لهذه التمثيلية الرخيصة، ولوجهوا جهدهم إلى الإصلاح الحقيقى بدل هذا المنكر الذى لا أثر له سوى مزيد من التخلف والفقر والفساد والاستبداد.
أضف تعليقك