بقلم: سليم عزوز
أعتذر لإبراهيم في فيلم «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»، لأنني استدعيت عبارته، التي هي عنوان الفيلم، في حالة غير مشابهة، والمأخوذ من رواية لإحسان عبد القدوس، فابراهيم عندما أخفى فقره عن «خيرية» كان «غرضه شريفاً»، لأنه أحبها وخشي إذا ما عرفت حقيقة وضعه، أن تتركه، ولأن «الكذب ليس له رجلين»، كما يقولون، ولأن الحقيقة في الدراما العربية لا بد أن تتضح، فكان قوله «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»، على العكس من القوم في قناتي «العربية»، وابنتها البكرية «الحدث»، فهما تكذبان وتتحريان الكذب، على نحو صار مكشوفاً، فما الهدف من اطلاق أكاذيب سيقف العالم بعد قليل من اطلاقها على أنها تندرج تحت لافتة «الفبركة» الصحافية!
تذكرون في ليلة الانقلاب في تركيا، كيف أن «العربية» ومعها جارتها بالجنب «سكاي نيوز عربي» سهرتا حتى الصباح، في ترويج الأكاذيب، وفي إعلان بيانات عسكرية لقادة الانقلاب، دون أن نعرف من هم، وكيف وصلت للقناة هذه البيانات التي انفردتا بها، وقد ثبت أنه لا بيانات هناك ولا يحزنون، فالبيانات معدة سلفا، من دوائر الانقلاب في الإقليم، وفي الوقت الذي كانت فيه «العربية» وجارتها، تبثان بيانات قائد الانقلاب المفدى، كان الشعب التركي يطارد الانقلابيين في الشوارع، ولا أنكر أن «العربية» و»سكاي نيوز»، سيطرتا على المشهد الإعلامي في هذا الوقت المبكر من هذه الليلة، فكان ما تذيعانه هو الحقيقة، ولم تكن القنوات الأخرى تنقل من الشوارع، بل كان مراسلوها ينقلون من «العربية»، ويقرأون الوضع بناء على ما تبثه، وأذكر ليلتها أنني كنت أتابع الموقف من على الأرض، من خلال عرب نزلوا للشوارع، وكنت أبشر الناس بأن القصة لم تتم فصولاً، وأن الشعب نزل لمواجهة الانقلابيين، وكنت أتلقى تعليقات محبطة من عينة: «لا تضلل الناس»، «الموضوع انتهى»، ودخلت على صفحات القوم، لأدخل معهم في جدل، حول أن ما ينشرونه ليس صحيحا، ومنهم من قفز للأمام فرسم صورة لأردوغان، وهو يقدم للمحاكمة على هيئة مبارك عندما دخل المحكمة على سرير المرض!
لم تنتبه القنوات الأخرى، أنها ضحية لما تبثه «العربية» و»سكاي نيوز»، إلا بظهور أردوغان، وهو يطلب من الشعب النزول، عندئذ نزلت الكاميرات لترصد مدى استجابة الناس لهذه الدعوة، فوقف المراسلون على الحقيقة، وتين أنها ليست كما كانوا ينقلونها من غرف نومهم وهم جلوس أمام قناتي «العربية» و»سكاي نيوز»، فلما تبين الرشد من الغي، علقت عند كاتب عربي، يقوم بتدريس العلوم السياسية في إحدى الجامعات الأمريكية العريقة، كيف له وهو الخبير الاستراتيجي، أن يقع في خطأ التبشير بنجاح الانقلاب، وها هو يتم دحدره وهو ما أخبرته به مبكرا، ودخلت في تحد معه، ومع شعوره بالهزيمة، قام بحظري!
عندما أشاهد القوم يحللون عبر المحطات التلفزيونية ينتابني احساس بالغ أن هناك تساهلا غربيا، في اختيار الأساتذة العرب لجامعاتهم العريقة، لأنهم يبدون في مستوى طلاب مسرحية «مدرسة المشاغبين»، في إجاباتهم على سؤال «الآبله عفت عبد الكريم»: ما هو المنطق؟! بانتصار الشعب التركي، قامت «سكاي نيوز» بالتخلص من أثار الجريمة سريعاً وقامت بحذف ما نشرته، وإن ظلت «العربية» محتفظة بأكاذيبها، ولا أعرف إن استمر الاحتفاظ به إلى الآن أم أنها تخلصت منه بعد ذلك، فتبدو القدرة على الحذف والتعديل هى من واحدة من عيوب الإنترنت عندما يكون الأمر مرتبطا بالتقييم العلمي، أو المهني، أو حتى مرتبطاً بحقوق الغير على المؤسسة الإعلامية، وهي القضية الخاصة بموضوعنا اليوم، حيث يمثل الأداء في الانقلاب التركي، علامة مميزة لقناة «العربية» وإبنتها «الحدث»، و»سكاي نيوز» بدرجة ما!
القرضاوي مع مفجري سريلانكا
لقد نشرت «العربية» و»الحدث»، صورة للدكتور يوسف القرضاوي، ويحيط به شخصان وتحت عنوان زاعق «صورة للقرضاوي مع زعيم الجماعة المتهمة بتفجيرات سريلانكا»، قبل أن يصدر اتحاد علماء المسلمين بيانا يوضح فيه الموقف، فالصورة تضم «سلمان الحسيني الندوي» العالم الهندي المعروف، وعلى يساره الدكتور «عادل الحرازي»، ولا وجود لـ»زهران هاشم»، كما قالت «العربية» و«الحدث» باعتباره أحد المشتبه فيهم في ارتكاب تفجيرات سيريلانكا!
وكان يمكن أن تكون هذه قنبلة الليلة، في برامج «التوك شو»، التي تتولى أمرها الأذرع الإعلامية لعبد الفتاح السيسي، فالهدف ثمين، والشيخ القرضاوي هدف للانقلاب العسكري في مصر ودوائره المحيطة، ليس لأنه محسوب على قطر، ولكن لأنه محسوب على الثورة، والخصومة مع قطر ليست قائمة لأي سبب، إلا أن قطر تملك «الجزيرة»، وهي القناة التي كانت صوت الربيع العربي، ثم إن «الجزيرة» و»القرضاوي» أحبطا مخطط إخلاء ميدان التحرير في يوم موقعة الجمل، والذي كان يقوم عليه عبد الفتاح السيسي، بحسب تصريحات لاحقة للدكتور محمد البلتاجي، أدلى بها في برنامج تلفزيوني، حيث قال إن شخصاً اسمه «اللواء عبد الفتاح السيسي» قال إنه مدير المخابرات الحربية، جاء يفاوضه على مغادرة الميدان ليدخل أنصار مبارك لاعلان تأييدهم له.
ولولا أنها رغبة الطرفين بتجاوز هذه الأحداث، لكان من الجائز أن يكون الطلب هو محاولة الوقوف على من هو «اللواء عبد الفتاح» بدون «السيسي» الذي جاء لميدان التحرير وعرف نفسه بأنه في المخابرات الحربية، وطلب إخلاء الميدان، ألم يكن من الجائز أنه منتحل صفة، ومن الواجب التوصل إليه ومحاسبته على ذلك؟.
في الحقيقة فإن كل الأطراف كانت تريد تجاوز ما جرى، بما في ذلك شباب إئتلافات الوجاهة الاجتماعية، الذين سوقوا لأكذوبة الجيش حمى الثورة، وكانوا يجلسون في حضرة عبد الفتاح السيسي في لحظة ظن الواحد منهم أنه بأخمصه يطأ الثريا!
لقد سلطت «الجزيرة» كاميرتها على ميدان التحرير وضواحيه ونقلت للعالم كله، الجريمة التي يقدم نظام مبارك على ارتكابها، وجاء القرضاوي من سرير المرض إلى قناة الجزيرة ليلقي بياناً تاريخياً أفتى فيه بأن الذهاب لميدان التحرير لحماية المتظاهرين فيه هو فرض عين على كل قادر عليه، فأواب الآلاف معه، وكانت الجزيرة تعيد بث البيان طوال اليوم، فلم يأت الليل إلا والميدان الذي كان فيه بضع آلاف في الصباح لحظة الاقتحام، ليس فيه مكاناً لقدم، فغادرته قبل الفجر، وأنا أدرك أننا لن نهزم بعد اليوم من قلة!
جمعة النصر
وكان من الطبيعي، أن يخطب الشيخ بعد تنحي مبارك الجمعة في ميدان التحرير، وفي «جمعة النصر»، وكان طبيعياً أن يأتي الآلاف ليصلون خلفه، وبلغ الزحام حد أننا وجدنا صعوبة في الوقوف بشكل مريح وسط هذه الكتل البشرية، بل إن مسيحيين كانوا هناك، وكانوا يرون أن دورهم في تحديد للناس مكان القبلة، لا سيما في الأطراف حيث لا يرون الإمام ومن خلفه، وكانوا هم يقفون في مواقع مرتفعة تمكنهم من رؤية الإمام والصفوف الأولى.
ولأن الانقلاب العسكري، فشل في مهمة تشويه الشيخ، فقد كان الانتقام باعتقال ابنته وزوجها، فماذا يمكن أن يقولوا عنه؟ متطرف؟!
لقد جعلت قناة «العربية» من الشيخ القرضاوي هدفاً لها، استهدفته بالهجوم والتشهير، وقدمته في صورة مفتي الدم، بعد أن كان يستقبل في أبو ظبي على الرحب والسعة، وجرى تقديمه من قبل هذه القناة، على أن أفكاره تدعو للعنف، فأضحكوا الثكالى، فالرجل إمام الاسلام المعتدل، وكثير ما هوجم لذلك، حتى أن كتابه «الحلال والحرام في الإسلام» كان يوصف دائماً من المغالين بـ «الحلال والحلال»، لأنه ضيق أبواب التحريم، فلم تكن هي الأصل على العكس من المعمول به عندهم!
الأذرع الإعلامية للسيسي، نشرت صورة للشيخ مع حاخامات يهود، للقول إنه يتساهل مع الاسرائيليين، في حين أن من يتساهل معهم هو عبد الفتاح السيسي الذي قال إن مهمته تحقيق الأمان للاسرائيليين، وهؤلاء الحاخامات هم ضد الدولة الاسرائيليية ابتداء، لكنه الاستغلال النشط لجهل الناس!
فهل هو متساهل؟ أم متشدد أفكاره تدعو للموت، كما روجت قناة «العربية»؟، والتي استغلت صورة له مع عالمين هنديين، لتدخل الغش والتدليس على الناس وتقول إن الصورة لمن يقفان وراء تفجيرات سيريلانكا!
الرد المبكر لاتحاد علماء المسلمين، أفسد مفعول القنبلة، فانفجرت في «العربية» و«الحدث»، فلم يتمكن القوم في القاهرة وفي برامج التوك شو من الاحتفاء بها.
قال بيان هيئة علماء المسلمين، إنه لا وجود لـ «زهران هاشم» المشتبه في قيامه بتفجيرات سيريلانكا في الصورة، ومن يحيطان بالشيخ هما: سلمان الحسيني الندوي، ومن على يساره هو «عادل الحرازي»، وارتج على القائمين على «العربية»، إزاء انكشافهم، وقد ضبطوا متلبسين بالتزوير، وكان ردهما أن «العربية» و»الحدث» لم تقولا إنه «زهران هاشم»، فما نشر أن الصورة لـ «سلمان النووي، زعيم جمعية التوحيد الهندية المتطرفة التي ترتبط بذات الخطاب التكفيري لجماعة التوحيد السيريلانكية التي يتبعها المفجر الانتحاري زهران هاشم».
انظر إلى هذا الرد المضحك لتهافته؟ وقد ظنوا لوجود خاصية التعديل أن يغيروا فحوا الخبر ويخرجوا كالشعرة من العجين، لكن كما يقال لا توجد جريمة مكتملة، ولا بد من مرتكب الحادث أن يترك دليل إدانة يقود اليه!
فعودة إلى الخبر (جسم الجريمة) نكتشف أنه تعرض للتعديل بعد ست ساعات من نشره، والمعدل اكتفى بالعنوان والصورة، لكنه خبر آخر تماما عن تفجيرات سيريلانكا ليس فيه اسم الشيخ القرضاوي، فالمتن منبت الصلة بالعنوان وبالصورة!
لا تندهش، فقناتا «العربية» و«الحدث» أذاعتا أن السلطات السودانية رفضت مقابلة رئيس الحكومة القطرية، وأعادت الوفد القطري إلى الدوحة من مطار الخرطوم، ونفت الخارجية السودانية ذلك!
إنه اعلام يتنفس كذباً.
أضف تعليقك