الدكتور صلاح الدين سلطان
إذا أردنا بحق أن ننتقل في رمضان وما بعده من الانفعالات والتأثير إلى الإصلاح والتغيير فلا بد من الانتصار على النفس في أهوائها الجامحة لنسعد في حياتنا الزوجية والأسرية ونحقق السلام والوحدة الوطنية والعربية والإسلامية وهذا هو الطريق الطبيعي لننتصر في الميدان لنكون الأمة الراقية الشاهدة على العالم كله ، لنعيد إلى العالم انتصارات بدر وفتح مكة وحنين وتبوك، وحطين وعين جالوت ، وهي الخطوات الإصلاحية التي ربى عليها النبي الصحابة بلا تخريب ولا تدمير، أو ظلم وطغيان، بل تعمير وعدل وإحسان، وهذه خطوات الإصلاح والتغيير من خلال مدرسة الصيام التربوية .
أولاً : الصيام مدرسة التغيير للنفس :
إن مشوار الإصلاح والتغيير يبدأ بالنفس لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد : 11) والحق أنها هي الأصعب حيث استطاع إنسان القرن الحادي والعشرين أن يملك ما حوله لكنه فقد السيطرة على نفسه ، يضغط على زرٍ فتفتح له الأبواب للبيوت والسيارات ، أو تفتح على الفضائيات والبلاد والعباد عبر البحار والمحيطات على الإنترنت والتليفونات ، لكنه ينهار أمام الشره على الطعام أو السعار على الجنس أو الحماقة في الغضب ، أو البذاءة والثرثرة في اللسان ، والصيام يعين الفرد على تجاوز هذا الضعف أمام هوى النفس التي قال عنها ربنا سبحانه {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} (يوسف: 53) أو التي قال عنها سفيان الثوري (ما عالجت أمراً أشد علىَّ من نفسى) ، وقال عنها الحسن البصري (ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام من نفسك). إن الصيام يعطي كل فردٍ ثقة رهيبة في نفسه أنه بعون الله تعالى قادر على ضبط زمام الهوى ، وكبح جماح النفس ليس في الامتناع عن المحرمات من أكل الحرام أو الزنا والخنا أو السكر والتدخين أو الظلم والطغيان، بل الامتناع عن الحلال بكلمة الله أكبر عند الفجر ، ثم يباح بكلمة الله أكبر عند الغروب ، ليستقر في أعماق كل مسلم ومسلمة أنه ما زال إنسانا يحمل الفطرة النقية ، والنفس الزكية التي تقدر أن توقف بعض الحلال بأمر الرحمن وبالتالي فهي أبعد عن الحرام والشبهات . إن كبسولة الصيام تعالج في الفرد الروح والخلق والعقل والجسد فى آن واحد على النحو التالي :-
أ- كبسولة الصيام وعلاج قسوة القلوب وجفاف الروح :
إن التجرد بالصيام لله سر بين العبد وربه ، ويعلمه أن يكون باطنه خيرا من ظاهره ، وقراءة القرآن وطول الصلاة والقيام ، ومضاعفة الحسنات ، فالفريضة فيه بسبعين فريضة والنافلة بأجر الفريضة ، والأذكار والدعاء والقنوت في أجواء مهيأة من تقييد مردة الشياطين ، ونزول الرحمات ، وتجول الملائكة ، ووجود المسلم بين إخوانه أو المسلمة بين أخواتها الذين تنبع منهم كل أفعال الخير ، هذا كله يجعل الروح تأخذ قسطها الوافي من العلاج الشافي من أمراض قسوة القلوب ، وجفاف الروح، وجمود العين عن البكاء ، وقصور اليد عن التضرع والدعاء ، وخمول اللسان عن الذكر والثناء ، ليتحول الفرد شابا وفتاة ، رجلا وامرأة، حاكما ومحكوما، صغيرا وكبيرا إلى أشباه الملائكة في نورانية القلب بحب الله، وخشيته في السر والعلن، والتلذذ بذكره في الليل والنهار والأسحار ، وهذه مفاتيح طمأنينة القلب وهدوء النفس ، وانشراح الصدر لقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28).
ب- كبسولة الصيام وعلاج دنايا الأخلاق :
إن الشهوات الأربع فى كل إنسان هي لعمارة الأرض ، واستمرار النسل ، وبقاء القيم لكن بشرط الاعتدال فى استعمالها ، لكن ثوران شهوات البطن والفرج والغضب والكلام كفيلة بتحطيم الإنسان لنفسه وأسرته ومجتمعه وعالمه، والصيام مدرسة تربوية رائعة تضع لجاما اختياريا على هذه الشهوات الأربع في وقت واحد، فالصيام من الفجر إلى المغرب يخرج بالإنسان عن عادات الإسراف في الحلال، أو الولوغ فى الحرام مثل التدخين والسكر والإدمان إلى الاعتدال فى الطعام والشراب ، والتوقف عن الحرام والشبهات كما يكسر من غلو شهوة الجنس التي تهتك الأعراض، وتدمر الأخلاق ، وتفشى الرذائل والأمراض ، ليكون الصيام وجاء لهذه الشهوات الجامحة ، ويرفع الإنسان من خسة الحرام إلى عفة الحلال ، كما تنقل الإنسان من ثورة الغضب على النقير والقطمير فيفقد الأصدقاء ، ويقطع الأرحام ، ويعق الآباء والأمهات ، ويوقع الطلاق والشقاق ، ليكون بالصيام الحليم الصبور ، والهادئ الوقور ، فإن استفزه أحدٌ قال إني صائم مرتين ، ليوفر غضبه لله تعالى ، والغيرة على محارمه ومقدساته، وليس انتقاما للنفس وانتصاراً لشهواته ، كما يضبط الصيام لسان كل إنسان صائم للرحمن فيشغله بالذكر والقرآن عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، فيعرف المسلم بين الناس بطيب الكلام ورفيع المقال ، ويكون أهلا لرضا الله والجنة لما رواه مسلم بسنده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال : ( اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، أوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم ، واصدقوا إذا حدثتم ، وغضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وكفوا أيدكم ) .
جـ- كبسولة الصيام وعلاج جمود العقل :
حقا ( إن البطنة تذهب الفطنة ) كما أخبرنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكثرة الطعام تستوجب ذهاب أكثر الدم من الدماغ إلى البطن لتهضم الفضل من الطعام الزائد ، وهنا يسترخى العقل أو ينام ، فيحرم الإنسان من حب العلم والتعلم ، والفكر والتدبر، والاختراع والإبداع ، وما الحضارات الفذة إلا أفكار رائدة من عقل راشدٍ لا هامدٍ ، يعمل ولا يكسل ، ويفكر ولا يفتر ، هكذا العقل هو مناط التكليف كما أن القلب مناط التكريم ولذا روى عن الإمام جعفر الصادق رحمه الله (إن أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : فبعزتي وجلالي بك أعاقب وبك أثيب) وهذا يتوافق مع أكثر من 865 آية في القرآن الكريم تحث على التعلم ، وأكثر من 247 آية تحث على النظر والتدبر والتفكر ، وأكثر من 50 آية تحث على السؤال والتفقه . إن مدرسة الصيام هي أعظم فسحة للعقل أن ينطلق مع فراغ البطن وخفة الجسد إلى عالم الإبداع ليفكر بعمق في الكتاب المسطور والكون المنظور ثم يقدم من خلال هذه المنظومة الربانية حلاً سديداً ، ورأياً فريدا ، ونوراً جديدا .
د- كبسولة الصيام وعلاج أمراض الجسد :
إن شهوة الطعام بغير لجام الصيام يجعل الفرد يصاب بأخطر الأمراض ومنها الجلطة وضغط الدم والسكري والسرطان وقرحة المعدة والأمعاء والتهاب القولون والمرارة والمفاصل والحصوات والبروستاتا والنقرس والأملاح والحساسية والحكة والغازات الكريهة كما أن عادات التدخين والشيشة التي ابتلى بها الملايين تحرم هؤلاء من طيب الفم ، وصحة الجسم فهي أكبر مسببات السرطان والسل والالتهاب الرئوي والضعف الجنسي كما تؤثر سلباً على الإنتاج والاقتصاد ، وشهوة الجنس بغير لجام الصيام تصيب الجسد بالإيدز والسل والسيلان والتقيح في الفروج والأبدان ، وشهوة الغضب تؤدي إلى التوتر العصبي ، والاعتداء على الغير فتجرح أو تبتر بعض الجسد أو تنتهي بالقتل العمد العدوان لكن كبسولة الصيام وقاية وحماية ، وعلاج وشفاء من كل هذه الأمراض التي تحول الإنسان إلى العفيف الشريف ، القوي الفتي ، الهمام النشيط وليس الكسول الرخيّ أو الخسيس الدنيّ ولعل صيام رمضان فرصة لاستعادة الثقة فى أننا نحمل فطرة نقية وعزيمة قوية على ترك عادات الأكل الكثير أو التدخين ، فمن صبر اثنتى عشرة ساعة يمكنه بلاشك الصبر بقية الليل إن استحضر في هذا الشهر الكريم ثقته في نفسه ، ودعا ربه أن يعينه على نفسه قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت : 69).
وهكذا تصنع مدرسة الصيام المسلم والمسلمة صاحب القلب التقي ، والخلق النقي ، والعقل الذكي ، والجسد الفتي ، وهذا لعمرى مفتاح كل رقيّ .
ثانياً : الصيام مدرسة التغيير لإصلاح الأسرة :
إن القلب ليحزن على أسر تعيش مع الجراح، أو تنفصل لتخلف وراءها ملايين من الأشباح ، يعيشون بلا ارتياح ، وبين أيديهم مدرسة الصيام تربي الأسرة زوجا وزوجة على الحب القلبي والتفاهم العقلي والتناغم الجسدي، وترتقي بالأولاد إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات ، ورفيع الشمائل والمكرمات، ويتضح ذلك مما يلى :
1 - مدرسة الصيام تصنع الزوجين قبل العقد والبناء ليكونا متوازنين معتدلين في الطبع والمزاج ، والخلق والجسد ، وهما أكبر أمان للحياة الزوجية السعيدة.
2 - الصوم لمن لا يقدر على الزواج وجاءٌ من الانحراف والانجراف كما جاء فى حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدي إلى التمادى فى الحرام والعزوف عن الحلال مما يؤدى إلى العنوسة ، وهى أخطر أمراض المجتمع ، أو تؤدي إلى الشك فى الطرف الآخر ، فإذا تزوج أو تزوجت عاشا معا على الشكوك فى الأفعال والتصرفات من أمراض الماضى قبل الزواج ؛ مما يؤثر سلبا على الحياة قطعا إن استمرت ، أو يقطع حبالها إلى الشقاق والطلاق .
3 - المودة والرحمة هما أساس السعادة الزوجية كما قال سبحانه في (سورة الروم : 21) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهما لا يشتريان بأي مال، بل تنزل الرحمات مع أول عشر من رمضان حتى آخره ، وتتوالى الرحمات مع تلاوة القرآن والذكر والقيام ، وتنزل الملائكة تستمع إلى القرآن وتصلي على المتسحرين ، وتؤمن على دعاء الصائمين والقائمين والقانتين ، فتهرب الشياطين وتفتح أبواب الحب القلبي ، وهو بالاستقراء أول غائب عند كثير من الأسر.
4 - علاج شهوة الجنس بالقدرة على الامتناع عن الحلال هي أكبر ضامن للزوجين ألا تزل قدم بعد ثبوتها ، فتنهار أمام فتنة الحرام ، وسعار الجنس الذي يملأ الشاشات والإنترنت والجرائد والمجلات، وتستهوى الشباب والفتيات والرجال والنساء ، مما يؤدي إلى العزوف عن الحلال والهروب إلى الحرام ، فتخرب البيوت ، وتنهدم المكارم ؛ لأن المسلم أو المسلمة لم يعش معنى وسر الصيام التربوي الذي يلجم شهوة الجنس حتى عن الحلال بعض الوقت فكيف بالحرام الذي يفتح أبواب الجحيم في الدنيا والآخرة .
5 - كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من الصيام وسيلة للوئام مع أزواجه إذا لم يوجد الطعام فيقول إني صائم ليتعلم كل زوج ألا يثور ويفور ويرغي ويزبد لتأخر الطعام إعداداً أو تسخينا مما يجرد الإنسان عن إنسانيته لتشعر الزوجة بحيوانية زوجها فينقبض قلبها ، وتنكسر نفسها ، ويفتر حبها وهي قنابل مدمرة لأية أسرة.
6 - من الهدي الإسلامي ألا يصوم رجل أو امرأة تطوعا إلا بإذن من الآخر ، وقد ترجم البخاري في صحيحه بابا بعنوان حق الأهل في الصوم ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمرو بن العاص أن يعتدل في صومه ليوفي بحق أهله ، وكذلك لا تصوم المرأة - أي تطوعا- وزوجها شاهد إلا بإذنه، هذا أيضا من الرقي الإسلامي بتصريف الشهوة دون الرهبنة والتبتل.
7 - من رحمة الله تعالى أن أحل الرفث واللقاء بين الزوجين من المغرب إلى الفجر، وضمن ذلك آيات الصيام ليتلاءم مع نداء الفطرة ، وليجعل ذلك علامة على وسطية الإسلام بين السعار الجنسي المذموم والترهبن المزعوم.
8 - شهر رمضان ومدرسة الصيام تربية للأسرة كلها وليس فقط الرجل أو المرأة، الزوج أو الزوجة والأولاد فهم يتسحرون معا ، ويصلون في المسجد معا ، ويعتكفون معا ، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر شد مئزره ، وأحيا ليله وأيقظ أهله، وكانت زوجاته يعتكفن معه فى المسجد أو يزرنه ويذهب لتوصيلهن إلى بيوتهن كما فعل مع صفية ويرخى رأسه إلى عائشة كي تغسلها وترجلها وهو صائم ومعتكف في المسجد ، وكان الأصحاب يصومون ويعوّدون أبناءهم الصغار على شعيرة الصيام ، ويجعلون لهم اللعبة من العهن (الصوف) يلعبون بها حتى يأتى وقت الإفطار، لتكون الأسرة كلها فى معية الله وحفظه ، وتوفيق الله وأمنه.
9 - مدرسة الصيام تعلم الزوج الرفق الشديد بالزوجة الحامل والمرضع والحائض ؛ حيث وضع عنها ربها الذي خلقها فرض الصيام لتصوم وقتا آخر أو تفدي ، لتكون رسالة لكل زوج مسلم أن يكون شفوقا رفوقا ، عطوفا حنونا على زوجته خاصة فى مرضها أو ضعفها عند حملها أو إرضاعها أو حيضها ، وهو أكبر سبب يجعل الزوجة تشعر بالأمان في كنف رجل ذا مروءة وإحسان لأنه من الكرام وليس من اللئام الذين يستروحون الورد عند إيناعه، وينصرفون إلى غيره عند ذبوله.
10- الصيام لجام اللسان أن يقول زوج لزوجته أو تقول زوجة لزوجها ما يوغر الصدر ، ويورث الشحناء والبغضاء ، بل يجعل الصيام حلو الكلام وطيب الفعال عنوانا لكل أسرة مسلمة.
بهذا يصنع الصيام الأسرة على الحب والوئام والمروءة والانسجام ، ويعالج جميع الجراح والآلام .
ثالثاً : الصيام مدرسة التغيير لإصلاح المجتمع :
يحدث الصيام سلاما اجتماعيا كبيرا لا نظير له في أي مجتمع آخر ، ويتجلى ذلك فيما يلي :
1 - في رمضان تصفد مردة الشياطين ، وتنادي ملائكة الرحمن يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتجد المساجد ملأى، والصدقات تتزايد ، والأرحام تتزاور ، ومع الصيام والقيام والذكر والدعاء تهدأ النفوس ويشيع الهدوء والسلام والعفو والتسامح والغفران بين أبناء المجتمع الإسلامي ، فإن ظهر مستفز يقابله جاره أو صديقه أو قريبه بقوله إني صائم مرتين ، لأنه مشغول بالله عن الخصام، هذب الصيام شهوة الغضب فلم تعد هادرة فتاكة لبنيان المجتمع .
2 - في رمضان يرغب كل مسلم في إطعام الطعام وإفشاء السلام ، هذا مع شعيرة القيام ، وهي السلالم إلى الجنان كما أخبر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ، وإطعام الطعام يتنوع بين دعوة ذوى الأرحام والأهل والأقارب والأصدقاء والجيران مسلمين وغير مسلمين كى يتناولوا جميعا طعام الإفطار مما يساهم بقوة فى توثيق الأواصر الإنسانية والروابط الاجتماعية والوحدة الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد، وتظل آيات القرآن تحث على الإطعام حبا للرحمن لكل إنسان مسكينا ويتيما وأسيرا مما يؤكد على أهمية الإطعام بصرف النظر عن لون ودين وجنس هذا الإنسان .
3 - كما يكثر الإطعام على سبيل التهادي ، فإنه يزيد كثيرا أيضا على سبيل التصدق والبر والصلة للفقراء والأيتام ، وهذه الكفارات العديدة، وإفطار الصائمين مما يجلب مغفرة الذنب والعتق من النار ، وكذلك حقائب رمضان لكفالة المحتاجين مما ينزع فتيل الأحقاد والأغلال بين الأغنياء والفقراء ، فلا يحقر غنيٌ فقيرا، ولا يحسد فقير غنيا بل هما معاً ابتلاهم الله بالمال كثرة وقلة ليجزي الكريم قرباً من الله والجنة والناس وبعداً عن النار ، ويجزي الفقير خيرا على صبره ورضاه بقدر الله مع بذله لقصارى جهده ، فأي سلام أعظم من هذا الحب والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد ؟!
4 - في رمضان ، ومع معايشة آثار الصيام تكون أعظم فرصة لإنهاء الخصام ، وجمع المسلمين الذين فرقهم الشيطان ، وأحدث فجوة بين الإخوان أو الأهل والخلان ، أو الأقارب الجيران، فهنا تكون أعظم فرصة مع هدوء النفس ، وعظم الأجر ، وانتشار الخير أن يتسامح كل مع الآخر ، وهنا يأتي دور المصلحين الذين يدركون عظمة أجرهم لما رواه ابن ماجه أن النبي r قال : ( ألا أدلكم على خير من الصلاة والصدقة والصلة والصيام، قلنا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين )، فيقوم هؤلاء المصلحون تحت شعار {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات : 10) بالسعي لجمع المتشاحنين وتذكير المتخاصمين من أبناء المجتمع الواحد أن الله يبسط رحمته ومغفرته لكل مسلم إلا أن يكون مشاحنا لأخيه، كما يذكر بحديث البخاري عن عبادة بن الصامت أن النبي r قال: ( أُريت ليلة القدر فخرجت أخبركم بها فتلاحا (تشاحن) مسلمان فرفعت ، فالتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ). ففى عهد النبوة تخاصم مسلمان فرفع عن المجتمع كله رحمة واسعة وهى معرفة موعد ليلة القدر تحديداً لا يفوت معه إدراك ثواب ليلة القدر ، وهذا يؤكد مسئوليتنا عن تحقيق السلام الاجتماعي وأن يسعى كلٌ إليه.
5 - هؤلاء المصلحون بين المتخاصمين لو اضطروا إلى دفع مال لإنهاء نزاع كبير بين عائلتين أو فريقين ، فيحل لهم شرعا أن يأخذوا من أموال الزكاة أو الصدقات لأنهم تحملوا حمالة أي تحملوا مسئولية مالية في الإصلاح فحلت لهم المسألة حتى يصيبوا قواما من عيش كما أخبرنا النبي r ، هذا بالطبع إن كان لا يستطيع القيام بها ابتغاء الاحتفاظ بكامل الأجر .
6 - مما يؤكد أهمية هذا التواصل والسلام الاجتماعي الذي يصدر عن حب ورغبة في الخير والأجر أن هذا التواصل ليس فقط بين الأحياء بل إذا مات المسلم في مجتمع إسلامي فإنهم لا يودّعونه ليتخلصوا منه ، بل يحرصون على آخرته ومنه ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود بسندهم أن رسول الله r قال : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) ، وذكر ابن حجر العسقلاني: ( من مات وعليه صوم ثلاثون يوما فجمع له ثلاثون رجلا صاموا عنه يوما واحداً أجزأ عنه ) ، هذه صورة من أعظم التراحم بين المسلمين أحياء وأمواتا حتى يلقوا الله جميعا فيكون أملهم أن يكونوا فى ظل الله يوم لا ظل إلا ظله في ظلال على الأرائك متكئون "إخوانا على سرر متقابلين"
7 - من المكارم الأخلاقية للمجتمع المسلم أنه إذا كان المسلم صائما صوم تطوع ونزل به ضيف أو نزل الضيف صائما على قوم فإن الأصل أن يفطر الصائم إكراما لضيفه أو عدم إحراج لمضيفه ، ومشاركة له فى الطعام ، وفى هذا يروى الترمذي وابن ماجه بسندهما أن النبي قال : ( إذا نزل الرجل بالقوم فلا يصوم إلا بإذنهم ) ، ومنه وصية النبي لعبدالله بن عمرو بن العاص " إن لزَوْرِك عليك حقاً حيث كان يصوم كل يوم فلفت النبي نظره ونظرنا معه إلى أن هذا الصوم المتواصل يضعف كثيرا من الحقوق ومنها حق الضيف. وهذا ما لا نجده في أي مجتمع في عالمنا المعاصر، وهو خلق أصيل فى مجتمعنا الإسلامي جديرٌ أن نفخر ونعتز ونتمسك به.
8 - الأصل أن كثيرا من المسلمين والمسلمات يحرصون على الاعتكاف فى المسجد فى العشر الأواخر من رمضان ، وهذا يشيع الروح الإيمانية المتدفقة طوال الشهر في الغدو والرواح إلى بيوت الله تعالى، لكن هذا الاعتكاف لا يعطل المروءات الاجتماعية ، وقد روى مالك فى موطئه عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يترك الاعتكاف ويخرج لحاجة الإنسان في البيوت ) ، قال ابن قدامة المقدسي : يخرج المعتكف من المسجد لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة، وقال أحمد يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ، وهذا من الأحكام التي تدفع بكل مسلم أن يكون له حضور وذكاء اجتماعي لا ينسلخ عن الاجتماعيات التي تساهم في بناء جسور قوية من التلاحم الاجتماعي.
وهكذا يصنع الصيام سلاما اجتماعيا قائما على الحب والتعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان .
رابعاً : الصيام مدرسة التغيير لإصلاح الأمة :
1 - إن الصيام في رمضان من أعظم الشعائر التي تساهم مساهمة فعالة فى جمع الأمة العربية والإسلامية بكل دولها ومذاهبها ولغاتها وأعرافها حيث يتفق جميع أبناء الأمة فى العالم كله على أن الصيام فى رمضان واجب وليس نافلة ، وأنه واجب فى شهر رمضان وليس فى أي شهر آخر غير رمضان ، كما يتفقون على أن الصيام من الفجر إلى المغرب وليس من الفجر إلى الظهر في مذهب أو إلى العصر فى مذهب ثان ، أو بين العصر إلى الفجر فى مذهب آخر ، كما أن جميع المسلمين يُمسكون عن المفطرات نفسها من طعام وشراب وجماع ، ولا أحد من مذاهبها يجيز شيئا من ذلك ، وهذا هو الذي يجعل كل عاقل من الأمة ينظر إلى نقاط الاتفاق والوفاق التي تمثل جذع الشجرة بجذورها العميقة المستندة إلى النصوص القطعية في القرآن والسنة مما لا يختلف عليه أحد من المسلمين ، لكن فروعا عديدة في الفقه مثل فروع الشجرة الممتدة شرقا أو غربا ، شمالا وجنوبا، هذه خصائص الشجرة ، حيث يكون لها جذع واحد، وفروع عديدة، فمن الفروع الفقهية كيفية ثبوت الهلال بالعين المجردة أو الحساب الفلكي أو العين المجردة ما لم ينفها الحساب الفلكي ، وهذه الآراء الثلاثة خلافية داخل كل المذاهب الكبرى ، وكذا عدد الشهود لهلال رمضان أو شوال . هذه الثوابت مع الفروع تعد جزءاً من مرونة الإسلام ، واحترامه لاختلاف العقول ، وأساليب الاستنباط.
2- يحرص كثير من المسلمين الميسورين على إخراج زكاة أموالهم في رمضان طمعاً في مضاعفة الأجر، وهذا له تأثير كبير على الدولة والأمة الإسلامية في جوانب كثيرة منها ما يلي :
أ – علاج مشكلات البطالة والجريمة فى آن واحد، فالسياج الإيماني للزكاة والصيام يعالج البطالة التي تؤدي غالبا إلى الجريمة حيث يعتقد كل قادر على الكسب أن الزكاة أوساخ الناس له في الدنيا ، ونكتة سوداء في وجهه في الآخرة كما ورد عن رسول الله في أحاديث عديدة، فيندفع إلى العمل والكسب دون أن يكون عالة على غيره ، ومن عنده طاقة للعمل ولا يجد مالا أو آلة حرفة فالأصل أن يُعطى شبكة لا سمكة ، ويتحول من الاستهلاك للمال والأحقاد على المجتمع والدولة إلى المنتج المشارك في بناء المجتمع والأمة ، ومن كان فقيراً ضعيفاً لا يقدر على العمل فلا خلاف فى وجوب كفالته ، وحسن إعالته بما يجعله مصدر أجر وثواب ودعاء لأصحاب المال والأعمال، وهو ثراء من نوع آخر فى الدنيا والآخرة .
ب- الزكاة ومعها الصدقات الكثيرة فى رمضان تساهم فى إنهاء الفقر العالمي، وإذا كانت مجلة التايم الأمريكية قد نشرت في صفحاتها الأولى في مارس 2005م أن هناك ملياراً ومائة مليون فقير فقراً شديداً في العالم ، كما نشرت منظمة الصحة العالمية في يوليو 2006م أن هناك أكثر من 560 مليون طفل يموتون كل عام بسبب الفقر ونقص الدواء ، وهناك عشرات الملايين من الأطفال يتركون الدراسة للعمل الشاق بحثا عن كسرة خبز ، فإن أغنياء الأمة الإسلامية هم أول من يجب أن يبادروا إلى إعلان عالمي لكفالة فقراء العالم تحت شعار {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) ، وهذا مما تؤكده أكثر من مائة وثلاثين آية في القرآن الكريم ومئات من الأحاديث النبوية في الحث على الإنفاق وبذل المال لكل محتاج مسلما أو غير مسلم ، عربياً أو أعجمياً ، رجلاً أو امرأة ، شيخاً كبيراً أو طفلاً صغيراً ، وبهذا يُساهم أغنياء الأمة في إعطاء صورة ناصعة عن الإسلام والمسلمين مغايرة لصورتنا المشوهة في العالم الآن.
ج- تساهم الزكوات والصدقات في تقوية الوقف الإسلامي للمساجد والمدارس والمؤسسات ذات النفع العام دعما لفعل الخير ونفع الغير ، واستقرار مؤسسات النفع العام يأتى بتعاون بين الأنظمة والشعوب ، حين تخصص الأنظمة أموالاً من ميزانياتها ، ويخصص الأغنياء جزءاً من صدقاتهم للوقف الذي يتحول إلى صدقات جارية ، ويؤدي إلى استقرار ونمو وتطوير مؤسسات النفع العام فى أمة الإسلام والمسلمين.
3 - في أحكام الصيام ما يؤكد استقلال الأمة وتميزها بخصائص وأعراف وقيم وتقاليد لا يجوز تذويبها فى بوتقة العولمة التى تدعو إلى التحلل من القيم الاجتماعية ، والخصائص الذائبة لكل شعب أو أمة من هذه النصوص التى تحث على وجبة السحور ما أورده الإمام أحمد في مسند أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال :( إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ) كما أنه يميز أمة الإسلام عن اليهود والنصارى الذين لا يتسحرون ، كما أنه لا يجوز تخصيص السبت أو الأحد بصيام اتباعا لغيرنا أو اختصار كل العبادات يوم الجمعة كما اختصرت اليهود والنصارى عباداتها يوم السبت والأحد ، وصوم يوم عاشوراء مع يوم قبله أو بعده حتى لا نشابه اليهود ، وهذا يؤكد ضرورة الاحتفاظ بخصائص الأمة الإسلامية بين الأمم مع وجوب التعاون على الخير مع أية دولة أو أمة كما أخبر النبي: لقد دعيت إلى حلف ابن جدعان لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت، لكن التعاون مع الغير لا يعني أن تذوب الأمة فى سياساتها وإعلامها وتعليمها واقتصادها وعاداتها الاجتماعية فى الغير ، لأننا أمة لها صبغة كما قال سبحانه {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (البقرة: 138) .
والحق الذي لا ينكر أن لكل شعب وأمة صبغة وخصائص فالشعوب اليابانية لها خصائص غير الصينية، وهؤلاء غير الأوربيين ، وداخل المجتمع الأوربي لا تتشابه تماما العادات الفرنسية مع الإنجليزية مع وجود الاتحاد الأوربي ، وهذا يؤكد ما ذكره ديل كارنيجي في كتابه عن القيادة أن اليابانيين بعد انهزامهم حربيا أمام الأمريكيين قرروا توظيف أحد كبار رجال الحرب الأمريكية كى ينقل لهم المشروع الأمريكي لينهض اليابان اقتصاديا وسياسيا، ولكن الرجل بعد أن درس خصائص الشعب الياباني أعطاهم نصيحة غالية وهي أن الحضارة الأمريكية تصلح داخل أمريكا ، وحضارة اليابان يجب أن تنبع من عادات وتقاليد وأعراف وأديان اليابانيين ، فأخذوا بهذه النصيحة ، وها هم اليوم في أعلى السلم الحضاري الصناعي العالمي، فَعَلوها سياسة ونحن يجب أن نفعلها ديانة وسياسة .
4 - شهر رمضان والصيام يذكر بانتصارات الأمة عبر تاريخها العريق فأكبر نصرين في عهد النبوة غزوتا بدر وفتح مكة كانتا فى رمضان، وفتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد كان فى 28 رمضان سنة 92هـ ، وموقعة عين جالوت التي هزم فيها السلطان قطز مع سلطان العلماء العز بن عبدالسلام أكبر قوة في هذا الوقت وهم المغول كانت في 15 رمضان سنة 658هـ ، وكذا حرب العاشر من رمضان سنة 1383هـ على الصهاينة المغتصبين لأرضنا ومقدساتنا في فلسطين وسوريا ولبنان . هذه كلها نتيجة طبيعية لأن الأمة إذا تعمق الإيمان في قلوب رجالها ونسائها، وانتصرت على أهوائها وشهواتها وتجمعت صفا واحداً خلف قادتها وعلمائها فإنها قطعا تكون جديرة بالنصر والعزة والتمكين وفقا لوعد الله رب العالمين القائل : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} (الروم : 47) ، وهذا مما يعيد إلى الأمة العربية والإسلامية الأمل قبل العمل ، ثم البذل والتضحية وجهاد أعدائهم وليس تصويب مدافعهم إلى صدور أبنائهم في الملة الواحدة.
هذه بعض آثار مدرسة الصيام لإحداث تغيير حقيقي في كيان هذه الأمة الواحدة ذات الجذر والجذع الواحد ثم يتمدد في فروع كثيرة يغذي بعضها بعضا ، ويظلل بعضها بعضا، لكنها في الوقت ذاته ثابتة راسخة أمام الأعداء {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم : 24،25).
أضف تعليقك