بقلم: عامر شماخ
رمضان جاء ومعه الخير، والكيْس من اغتنم فرصه، وأدرك خيره وأقبل على البر فاستزاد منه. والأحمق من انقضى شهره وهو فى موضعه لم يبرحه. والهالك من زاد شره فى شهر تصفد فيه مردة الشياطين فيكون شره صادرًا عن نفسه الأمارة بالسوء.. ذلكم شهر ينادى فيه مناد (من الملائكة): أن يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر، وقال المعصوم: «بُعدًا لمن أدرك رمضان فلم يُغفر له»..
إن لرمضان عشرات الفرص والنفحات التى يغتنمها الأذكياء، الفاهمون الموفقون، فأبواب الجنان مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والأجواء مهيأة لزيادة الطاعات والكف عن المنهيات، والناس من حولك -على غير باقى أيام السنة- صائمون، مجتهدون فى العبادة، غارقون فى الطاعة، والمساجد مشرعة أبوابها، مزينة لضيوفها الراكعين الساجدين، والكل مبتهج بذلك الضيف العزيز. أفبعد كل هذا تمر عليك أيام الشهر مثل باقى أيام العام؟
ليكن لك «ورد رمضانى» متميز، استعن فى وضعه بالأصدقاء والأحباب، فلا يفتك الخير، ولا تُحرم المعروف، والعبادات بالخبرة والتجربة، وأقل الورد أن تصوم صوم الخواص؛ إذ الصوم الحقيقى ليس صوام العوام الذين يمتنعون عن الأكل والشرب وربما اقترفوا المنكرات فهؤلاء لا صوم لهم، إنما الصوم امتناع عن المحظورات، وكف الأذى عن الخلق، والبحث عن أسباب التقوى التى هى فلسفة الصوم، والتمرين على الصبر والحلم والأناة والعفو، والزهد فى متع الدنيا والتأمل فى حقارتها، وحمد الله على كل حال، وانتظار الفرج والثقة بأن معه الفرح؛ كما تنتظر لحظة الفطر وقرينها سد جوعتك وابتلال عروقك وإجابة دعوتك.
هذا أقل القليل، أما المستحب فهو كثير؛ فالذكر على كل حال، وهناك فرق يلحظه المجربون بين ذكر الصائم وذكر المفطر، ولا تخلو دقيقة فى حياة المسلم من ذكر وابتهال، ودعاء ومناجاة، والذكر فنٌ يحتاج إلى تمرين ورحابة صدر، ومتابعة، وتفكر، وقد شرف رمضان بنزول القرآن، وهذه فرصة للنظر فى كتاب الله؛ تلاوة وحفظًا، وتدبرًا وفهمًا. طالع كتاب الله بكل صور المطالعة؛ فإنه -والله- لمن تدبره وخشع له لجنة الله فى أرضه، فلا رحمة ولا سعادة ولا طمأنينة قلب وراحة بال إلا به. وليكن لك نصيب فى دروس العلم، دبر لها أوقاتًا من تلك الأوقات التى تضيع فى الجلوس على «النت» ومشتقاته، وقم الليل وذق لذته، وانفض عن نفسك العجز والكسل، وادع الله ولا تمل ولا تيأس فإن اليأس سمت العاجزين. وتصدق على قدر استطاعتك، ولو بالقليل فإنه عند الله كثير، ورب درهم سبق ألف درهم.
وإذا كان رمضان فرصة للمسلمين أجمعين؛ فهو الفرصة المستحقة للشباب الذى هو عنوان القوة والإرادة والعزيمة، والذى إن تعود خيرًا فى هذه السن فسوف يشيب عليه بارًّا قانتًا لله من المحسنين، فليمتنع الشاب عما يكدر إيمانه فى هذا الشهر ولو كان صغيرًا لا يؤبه له، وليجتمع وأصدقاء له على الخير، وأن يتعاونوا للقيام بمشاريع البر -وما أكثرها إن عقدوا النية وجددوا العزم- كى يعيدوا البهجة إلى الشهر الفضيل، ويرسموا البسمة على وجوه قُتل عائلها أو حُبس بغير ذنب، وأن يقدموا العون للمحرومين وأهل الحاجة من لا يسألون الناس إلحافًا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
ولا زال مجال الإبداع قائمًا لا يمنع أحدًا من القيام بأعمال مميزة تكسر حاجز منع البر الذى فرضته السلطة الغاشمة؛ ذلك الإبداع الذى يغير النمطية التى عليها مساجدنا ومؤسساتنا الإسلامية، العامة والخاصة، والتى خلت من الدعاة الحقيقيين وقصرت الأمر على من يقيمون الشعائر خالية من مضامينها الحقيقية الفاعلة..
إنه موسم الطاعات، الفردية والعامة، يحسن فيه المؤمن إلى جيرانه، ويسدى إليهم المعروف، ويطرق أبوابهم للسلام والعفو والبشرى، ومد حبال التواصل، والتعارف وصلة رحم المسلمين، وفيه يكف أذاه عن الناس أجمعين، ويكظم غيظه، ولا يرد السب بالسب، ولا الشتم بالشتم، بل يكون أداة رحمة ليس فظًّا ولا غليظًا، بل رحيمًا رفيقًا بالمؤمنين، وتلك من أساليب الدعوة إلى الله، وتحبيب الناس فى دينه وأهل دعوته، وهو داخل فى باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالقدوة الصالحة والخلق القويم.
أما أعظم العمل فى هذا الشهر فهو الإصلاح بين المتشاحنين، وإصلاح ذات بين المسلمين؛ فهو أفضل المعروف، ففى الخبر عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه: (خرج النبى –صلى الله عليه وسلم- ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة. وأما إصلاح ذات بين الرحم فهو الأولى والأهم. زر رحمك، وتفقد العلاقات بينهم، وصل المنقطع منهم، وأدخل السرور عليهم، ولا تحرمهم من زيارة أو عطاء، أو دعوتهم إلى طعام أو ترفيه من أى نوع.
أما أبناؤك وأهل بيتك فلا يحتاجون التوصية بهم بعدما قمت بكل ما سبق؛ فهم الأوْلى بكرمك وعطفك وإحسانك فى هذا الشهر. وسِّع عليهم ما استطعت، واعف عن مسيئهم، وتجاوز عن مخطئهم، قرّب بعيدهم، وأدن شاردهم، أشركهم فى أورادك وعباداتك، وحبب إليهم رمضان، وحبب إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم.. والله المستعان، وعليه التكلان.
أضف تعليقك