بقلم: سيف الدين عبد الفتاح
لم تعدم النظم الاستبدادية مقولاتٍ تحاول استخدامها عند اللزوم، لتبرير نموذجها الأمني البوليسي في إدارة البلاد والعباد والتخويف من الاحتجاجات، والتأكيد على عدم مشروعيتها. تقع هذه المقولات ضمن ما يمكن تسميتها "المغالطات الاستبدادية" التي هي فرع من المغالطات المنطقية، والمغالطة المنطقية هي خطأ في الاستنتاج والتفكير ومحاولة إبرازه في شكل الصحة والصواب، وهي حجة زائفة أو خاوية، ذلك أن الحجج القوية المتماسكة هي التي تكون خالية من تلك المغالطات، بينما الحجج الضعيفة الواهية تكون مسكونةً بمغالطات تبدو منطقية في ظاهرها، حتى تبدو أقوى مما هي عليه. هذه المغالطات خدع وأوهام في التفكير، تستخدم عادة بشكل يغطي على الحقائق، ويزيف الجوهر، ويستخدمها بشكل خادع سياسيون وإعلاميون لخداع الناس، ضمن إعطاء فكرة تبدو منطقية في مظهرها، ولكنها خاطئة في مكنونها، تدلس على الحقيقة وتعبث بالمنطق، وهي تعبر عن اللامنطق. إنه لا منطق لها سوى التبرير والتمرير والتغرير والتزوير، هذه هي لعبة المستبد في خطابه الذي يتوجه به إلى الشعوب، في محاولة ترسيخ أكاذيبه في ثوب المنطق، وليس له من منطق. ومن هنا، لا بد وأن كون خطاب المستبدين محل تدقيق وكشف وفضح وتبصير، ذلك أن فضح تلك المقولات من أهم المداخل التي تشكل مواجهة تلك النظم الاستبدادية وزبانيتها، حينما يقومون بكل فعل من التمويه والتزييف، أو محاولات غسيل المخ الجماعي.
كثيرة المقولات الاستبدادية التي تستخدم هذه المغالطات المنطقية، منها "الدول لا تُبنى بالمظاهرات"، جعلها عبد الفتاح السيسي شعارا يحاول به أن يبرّر كل أفعاله وسياساته في التفزيع والترويع، وصناعة بلاد الخوف والتخويف، عمل يقوم به الطغاة الفراعنة في محاولة تزييف الكلمات في معانيها وإعطائها مضمونا غير مضمونها، بل ربما عكسه. يبدو لدينا أن مسألة "الدول لا تُبنى بالمظاهرات" حاول السيسي، من خلالها، أن يقدم لها أكثر من سند، متخذا في ذلك أساليب كثيرة ومداخل ملتوية حقيرة، يحاول بها التعتيم والتغييم على حال استبداده وطغيانه، مستخدما كل الألوان للتعمية على أصل القضية. وأصل القضية هو حال يرتبط بتمكين مسالك الظلم والجور، وترسيخ كل ما يتعلق بحال العبودية وانعدام الحرية. ومؤسفٌ حقا أن يعتبر الطاغية هذه الحالة هي المواتية لبناء الدولة، وتأمين خططها وسياساتها ضمن عملية تدليس كبرى، وتلبيس على أصل القضية. أصل القضية هو مواجهة الظلم كحالة استبدادية والعبودية كحالة. يريد الطاغية من ذلك أن يسند الخطيئة إلى فعل غيره، لا سياسات طغيانه، ويحاول لفت الانتباه عن القضايا التي يرتكبها في حق الشعوب، بادعاءٍ كاذبٍ في بناء الدولة، والقيام بعملية تنمية وإصلاح ونهوض. ومن العجيب حقا أن يسمي ذلك خطة إصلاحية، وما هو بإصلاح، إنما هو تعبير عن حالة فساد وإفساد، يؤكد ذلك البشير الإبراهيمي في بصائره، حينما يقول عن ذلك المستبد المدّعي للإصلاح، حينما يتحدث عن الإصلاح إن هذا الحديث المتكرّر، إنما يشكل، في حقيقة أمره، إدانة لذلك المستبد، بل هي الشهادة عليهم أنهم أفسدوا، فما بال هؤلاء يتحدثون عن الإصلاح، وهم يحكمون ويتحكمون. إنهم الفسدة ولكن لا يشعرون. المستبد لا يعدم وسائل أو مسالك لمحاولة ترسيخ جبروته وطغيانه بإصلاح ضال معكوس الذي لا يشكل إلا منظومة استبداد وفساد.
ثم يطلق جوقته وزبانيته في خطاب إعلامي، يحاول من خلاله أن يدبج تلك المقولات، ويطلقها شعارات. الدول لا تُبنى بالمظاهرات، هذا الشأن الذي يتعلق بإعلام الإفك يبرّر تلك الحال من الإفقار والتجويع، وكل مسالك التفزيع والترويع أنها عملية بناء. أما من يحتج أو يعترض فهو، في عرفهم، الفاسد المفسد الضال المضل، الذي يعتدي على مفهوم الوطنية ويعبر عن خيانته للوطن. هكذا يطلق هؤلاء في إعلام الإفك الأكاذيب، الأكذوبة تلو الأكذوبة، والافتراء يتراكم على افتراء يحاولون بذلك قلب القبيح حسنا في عمليةٍ خطيرة، تحاول إحداث غسيل مخ جماعي يشكل، مع أدواتٍ أخرى، بتمرير كل ما يتعلق بهذا الذي يجعل من المظاهرات جريمةً، ومن الاحتجاج كبيرة.
يترافق مع ذلك المدخل الدولتي الذي يصدع الرؤوس، ويدبج الكلمات عن الدولة والحفاظ عليها وحماية مؤسساتها، فيجعل من ذلك كله الذي يقوم به من حقوق الإنسان، واعتقال الناس، والضرب في المليان، والقتل من دون جريمة، والتصفية الجسدية. هو يتعلق بأمن الدولة وتأمينها، إيحاءً إلى عموم الناس بأن ذلك هو المهمة الكبرى. فيما الأمر يقع ضمن هذه المغالطات الاستبدادية، فإنه لا يقوم بحماية الدولة، بل هو كالقرصان، اختطف الدولة بكامل مؤسساتها، وقلب وظائف تلك الأبنية إلى عكس مقصدها، فالمؤسسات الأمنية وظيفتها الترويع والتخويف، والمؤسسات الإعلامية مهمتها الإعلان والكذب والتزييف، والمؤسسة العسكرية، بدلا من أن توجه سلاحها إلى العدو الحقيقي، توجهه إلى أبناء الوطن وصدورهم. والمؤسسة القضائية، بدلا من أن تقوم بالعدل والإنصاف، إذا بها تمارس كل معاني الضد. هذه هي الدولة التي يسعى لها المستبد، ويجعل من المظاهرات جريمة خيانةٍ، تهدد أمن الوطن، ولكنه لا يبحث إلا عن أمنه وسلطانه وطغيانه وكرسي استبداده. ومن جوف هذا "المدخل الدولتي"، يتولد المدخل الأمني والدولة البوليسية، يعتمده المستبد لمواجهة أي احتجاجات أو احتمال معارضة. هذا التضخم في المدخل الأمني إنما يعبر عن تغول هذا المدخل على غيره من مداخل التعامل في الحياة المدنية، وممارسات عموم الناس في المجال العام، فتغتصب السياسة، وتجفف كل مساحاتها، وتقتل كل عملٍ يتعلق بالعمل والشأن العام. ويؤكد أن أي معارضة غير مسموح بها، وهو دائما يذكّر بأحداث جرت من قبل لن يسمح بتكرارها، وهو لا يفهم حقائق الأمور أن الثورة ليست بسماحه، وأن الثورة عندما يحين أوانها لا يستطيع أحدٌ أن يعيق إرادتها، ولا حركتها.
وهو كذلك يدفع بالمدخل التنموي والاقتصادي، والحديث عن عجلة الإنتاج وتعطيلها، حديث مكرور سمعناه من قبل من المجلس العسكري، في محاولةٍ منه لتبرير فض الحشود الشعبية، والاعتصامات التي كانت في الميادين، وكأن التظاهرات، أو المطالبة بالحقوق، هي التي توقف عجلة الإنتاج، ولا يتحدث هؤلاء عن عجلة النهب المستمر الذي تقوم به العصابة لمقدّرات البلاد والعباد. يؤكد هذا الأمر عالم الأحداث الذي مرت بكل الثورات العربية، يحاولون أن يشوهوا تلك الثورات، بربطها بما أدت إليه من خراب، وما الخراب الحادث إلا من جرّاء ظلمهم وفسادهم وإفسادهم، وحكم العصابة الذي يستولي على مقدرات الناس والبلاد. وفي النهاية، يحاول هؤلاء أن يتوجوا ذلك بالظهير الديني للاستبداد، من خلال علماء الشيطان والسلطان، حينما يجرمون المظاهرات، ويجعلونها في منطقة الحرام، إنها المغالطات الاستبدادية، بمسالكها الإبليسية، تحاول أن تجعلها الحقيقة، وهي ليست إلا الزيف الأكبر والتزوير الأحقر.
أضف تعليقك