بقلم: سكينة إبراهيم
عندما يلوح في الأفق هلال شهر رمضان المبارك، أو حينما تهل علينا أيام ذي الحجة ولياليها العشر، أوعندما نبلغ يوم وقفة عرفات..في جميع تلك الأوقات نفزع إلي المسبحة والقرآن، ونشمر للصلاة والقيام والصيام..
حقا إنها في العمر أيام معدودات.. خاب فيها من خاب فهوي، وسعي فيها من سعي، وحصّل فيها من حصّل، وارتفع فيها من ارتفع..
وكما أن للمناسك والشعائر مواسم بعينها لنا فيها الحظ الأكبر من المثوبة والجزاء؛ ومن ثم نشمر لإعمارها وإحيائها بكل ما هو من لون العبادة والقربي؛ فإن لعمر الإنسان علي امتداده كذلك أياما ومواقيت من نوع آخر، ولها أيضا حظ خاص من ضروب بعينها من الطاعات ومظان العمل المزلف إلي ارتفاع قدر ومقام صاحبه.
فحياة الوالدين-علي سبيل المثال- موسم بذل لأبنائهما لبرهما والإحسان إليهما، والإقدام علي الله تعالي من هذا الباب. وحدوث ضائقة عند صديق أو قريب أو جار هي كذلك موسم بذل لاختبار وفاء المرء وبره وكريم شيمه وخصاله. وعصمة النفس عند شيوع بلاء الفتن وسهولة المعاصي واقترابها وكون الفواحش يسيرة متاحة سهلة المنال، هو كذلك من مواسم البذل التي تستخرج ما بصاحبها من قوة ذاتية في قبضه علي جمار الطاعة، ودفع المنكرات مهما دنت واشتد نداؤها.
وعلي صعيد متصل؛ تواجه أمتنا تباينات وتداولات لأيامها، فثمة أوقات مألوفة هادئة، وأخري فيها ملامح النصر ومواطن الفخار والعزة، وثالثة فيها بلاء الإستضعاف والوهن وتغلب العدو وتسلطه..
وكما يكون البذل مختلفا بحسب مواقيت السنة ما بين صيام وقيام وحج أو اعتمار، وبحسب مواقيت العمر ما بين بر وصلة وعصمة وقبض علي جمر، أيضا يختلف البذل بحسب أيام الأمة وتنوعات ابتلائها ما بين شر أو خير فيما ظهر منه أو خفي..
فأيام الأمة ومهما كان سمتها أو وصفها؛ طولها أو قصرها، وسواء أبكتنا أم أضحكتنا. فلها بذلها الخاص بها، و يكون امتحان المؤمن بشجاعة الإقدام لمواجهة ما فيها وعدم الفرار من أمامه مهما كان، بل تأدية حقه بحسب نوع هذا اليوم وذاك الموسم..
إننا حينما نفتح كتاب التاريخ تأخذنا دهشة بالغة تكاد معها عقولنا أن تطير ونضرب لأجلها كفا بكف؛ وذلك من شدة تشابه ما نقرأه من أحداث ومواقف وتصاريف مع ما نعيشه ونحياه بأنفسنا. ولا يتوقف الأمر عند حادثة تاريخية أو حقبة بعينها؛ بل هي مراحل بأكملها كما لو أن هناك نسخا وتكرارا لأركانها وأجزائها الرئيسة..
فما يحدث أن السمات العامة لأيام الله تعالي في الأرض بالفعل تتشابه ولكن الأبطال والفاعلين الذين يعايشونها هم من يختلفوا. فالأمر كما لو أن إنسانا يدخل امتحانا له علم مسبق بما سيأتيه فيه، بل إن لديه توقعا وتحذيرا من إجابات غيره السابقة التي أوردتهم المهالك..
فكم يكون جميلا أن نستقبل أيام العافية والإلف بالإعداد للنفس والأبناء بالعلم النافع، والتخطيط الجيد، والسعي في بناء المؤسسات والأفراد علي أفضل ما يكون..
وفي أيام النصر يكون بذلها بالشكر وتأدية حق إبراء العهود وإنفاذ المخططات وتحقيق واجبات الإطعام من الجوع والأمان من الخوف..
أما أيام الإبتلاء فيكون بذلها في الصبر عليها، والعمل علي دفع الفساد والمنكر والظلم ومقاومتهم بالسبل المتاحة من جهة، وبالثبات واليقين من جهة أخري. وإشعال مواقد الرضا والأمل أمام كل عين مظلمة..إن بيوتا ينوح أصحابها في انتظار اليد الحانية التي تعطف وتشفق وتسمح الدمع وتذيب بنور رحمتها ظلام الوحشة والحسرة والأنين، وإن ساحات المظالم لمتسعة تهيب بذوي الضمائر اليقظة والفطر السوية كي يشحذوا ألسنتهم وكلماتهم ومواقفهم جنودا لإنصاف البريء وإدانة الجائر الجاني، وإن الأحداث لذات أثر في كل أثر تُلح علي كل صاحاب ورقة وقلم أن يدوّن وأن يحتفظ لأبناء الغد بأثر من هذا الأثر..
إننا وكما نسعد بالقيام والصيام رغم ما بهم من مشقة ظاهرة، إلا أن لذة القرب الناتجة عنهما، وجميل الوصل الذي هو من آثارهما يجعلنا نتهلل فرحا للقيام بهما..وهكذا يكون نفسه التفكير في عمر المسلم حين يبدو متقاطعا مع أيام الأمة وتوقع ما ستكون عليه من سراء أو ضراء.
ما يجعلنا نتحول بنظرتنا إلي كل الابتلاءات علي أنها مجرد فرص أو “مواسم للبذل”..وبهذا يستقر القلب وينعم في كل وقت..
عندما تقرأ مذكرات المشاهير الذين أثروا في التاريخ وكانوا فيه من الأعلام الإيجابية حتي باتوا أمثلة تضرب، تجدك مشدوها كما لو أردت أن تدخل معهم في تلك الأسطر لتعيش معهم جمال الحكاية. تحن بقلبك لقصص تعلم من موقعك الزمني الحالي كيف آلت إلي أفضل النتائج، فتسعد معهم بالطريق الذي صاروا فيه، وتبدو مشتبكا متماهيا مع أبطال تلك القصص متمنيا إذا ما كنت واحدا منهم..
وها هو اليوم موعدنا جميعا أن نكتب لأنفسنا قصصا ممثالة..فهل نفر من أمام أقلامنا ولا نطير بها فرحا أم نكتب ما سبق أن حلمنا به وأسعدتنا حكاياته..؟!
أضف تعليقك