• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانية واحدة

من العلامات المضيئة في مسيرة دعوة الإخوان المسلمين أن الله يختار لها قادتها، ويضفي عليهم خصائص تناسب المرحلة التي تعيشها الدعوة، فيحقق الله بهم استمرار العمل الإسلامي وتقدمه، إلى أن يتحقق موعود الله بالنصر والتمكين.

قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور: 55).

والأستاذ "عمر التلمساني" – تغمده الله بواسع رحمته – من هذا الطراز الفريد الذي تحمل المسئولية في فترة من أصعب الفترات في عمر دعوة الإخوان المسلمين مع مطلع السبعينيات من القرن العشرين بعد غياب في السجون والمعتقلات لأكثر من عشرين عامًا، وكأني بهم يصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:172).

عمر التلمساني في سطور

اسمه "عمر عبد الفتاح عبد القادر مصطفى التلمساني".

ولد في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة في 4 نوفمبر عام 1904م، وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا.

دخل السجن عام في عام 1948 ثم 1954 ثم في عام 1981م، فما زادته الابتلاءات إلا صلابة وثباتًا.

نشأ في بيت واسع الثراء، فجده لأبيه من بلدة تلمسان بالجزائر، جاء إلى القاهرة واشتغل بالتجارة، وفتح الله عليه بالمال الوفير، فلجأ إلى القرآن يعتصم به، وتدثر بالانطواء على نفسه يزكيها بجهد صامت واجتهاد كبير.

في سن الثامنة عشرة تزوج وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، وظل وفيًا لزوجته حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م، بعد أن رزق منها بأربعة من الأولاد: عابد، وعبد الفتاح، وبنتين".

حصل على ليسانس الحقوق، واشتغل بمهنة المحاماه، وفي شبين القناطر كان مكتبه، وظل يدافع عن المظلومين حتى جاءت سنة 1933م التى التقى خلالها بالإمام الشهيد "حسن البنا" في منزله، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يدخل الدعوة المباركة.

بيعة الأستاذ "عمر التلمساني

يقول: كانت صلتي بالإخوان المسلمين، وعلاقتي بالإمام الشهيد قصة ظريفة دلت بدايتها على منتهاها.

أول ما اتخذت لي مكتبًا في شبين القناطر كنت أقيم في عزبة التلمساني، وفي يوم جمعة من أوائل العام 1933م ... كنت أجلس في حديقة الزهور فجاءني خفير العزبة يقول: "فيه أتنين أفندية عايزين يقابلوك"، فصرفت حرمي وأولادي وأذنت لهما بالمجيء، وجاء شابان أحدهما "عزت محمد حسن" وكان معاون سلخانة بشبين القناطر، والآخر "محمد عبد العال" ، وكان ناظر محطة قطار الدلتا في محاجر "أبي زعبل".

ومضت فترة في الترحيب، وشرب القهوة، والشاي، وثمة فترة صمت قطعها معاون السلخانة قائلاً: ماذا تفعل هنا؟ فأثارني السؤال، واعتبرته تدخلاً فيما لا يعنيه، فقلت ساخراً: أربي كتاكيت! ولم تؤثر إجابتي الساخرة على أعصابه، بل ظل كما هو موجهًا أسئلته قال: هناك شيء أهم من الكتاكيت في حاجة إلى التربية من أمثالك. وقلت ، وما زلت غير جاد في الإجابة: وما ذلك الشيء الذي هو في حاجة إلى تربيتي؟ قال: المسلمون الذين بعدوا عن دينهم ، فتدهور سلطانهم ، حتى في بلادهم ، وأصبحوا لا شيء وسط الأمم.

قلت: وما شأني بذلك؟ هناك الحكومات والأزهر الشريف بعلمائه يتولون هذه المهمة.

قال: إن الشعوب الإسلامية لا تكاد يُحَسُّ بوجودها. هل يرضيك أن تدعى هيئة كبار العلماء ليلة القدر من كل رمضان للإفطار إلى مائدة المندوب السامي البريطاني، وإلى جانب كل شيخ سيدة إنجليزية في أبهى زينتها؟ قلت: طبعًا لا يرضيني، ولكن ماذا أفعل؟

قال: إنك لست اليوم بمفردك، فهناك في القاهرة هيئة إسلامية شاملة اسمها "جماعة الإخوان المسلمين" ويرأسها مدرس ابتدائي اسمه "حسن البنا" وسوف نحدد لك موعدًا لتقابله، وتتعرف إلى ما يدعو إليه ، ويريد تحقيقه.

شبت العاطفة الدينية الكامنة في دخيلة نفسي، فملتُ إلى الرضا ووافقت على مقابلة الرجل، وانصرفا بغير ما استقبلا به.

وعلمت منهما قبل أن ينصرفا أنهما يؤديان مهمة في كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر، يجوبان القرى والعزب التابعة لمركز شبين القناطر يبحثان عن رجل يصلي، ويصوم، ويؤدي فرائضه، فيتعرفان إليه، ويعرضان الدعوة فإن قبل، اعتبراه نواة لشعبة في موقعه. وكان في كل مركز من مراكز القطر من يقوم بمثل مهمتهما من الإخوان المسلمين.

وبعد أيام حضرا إلى مكتبي وأخبراني بأنهما حددا لي موعدًا مع فضيلة المرشد العام، وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية، وفي الموعد المحدد طرقت باب الرجل، وفتحت سُقْاطة الباب، ودفعته، ودخلت إلى حوش المنزل، وصفقت فرد علىَّ صوت رجل يقول: من؟ قلت: عمر التلمساني المحامي من شبين القناطر. فنزل الرجل، وفتح باب غرفة على يمين الداخل من الباب الخارجي، ودخلتها من ورائه، وكانت مظلمة، لم أتبين ما فيها، ولما فتح النافذة الوحيدة في الحجرة المطلة على الطريق تبينت أن في الغرفة مكتبًا صغيرًا غاية في التواضع، وبعض الكراسي من القش يعلوها شيء من التراب ... وجلس إلى المكتب، وقدم لي كرسيًا؛ لأجلس. وعز عليّ أن أجلس على مثل ذلك الكرسي بالبدلة الأنيقة، فأخرجت منديلاً من جيبي وفرشته على الكرسي، لكي أستطيع الجلوس هادئًا في غير تضجر، ولا قلق. وكان ينظر إلى ما أفعله، وعلى فمه ابتسامه واهنة ظننتها تتعجب مما أفعل ، ومما أدعى إليه.

وشتان ما بين رجل يحافظ على أناقته، ورجل على وشك أن يدعى للعمل والجهاد في سبيل الله. وحق له أن يتعجب إذ إن مظهري كان يدل على الرفاهية التامة، وعدم تحمل مشاق العمل في سبيل الله؛ الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من خشونة العيش مع عدم الانغماس في بلهنية الحياة، وشيء من التجرد.

ورغم هذا المظهر الذي لا يطمئن كثيرًا، فقد مضى الرجل يتحدث عن الدعوة، وأن أول مطلب لها وآخره هو المطالبة بتطبيق شرع الله، وتوعية الشعب، وتنبيهه إلى هذه الحقيقة التي لن يتحقق الخير إلا عن طريقها.

ويكون التحول عن القوانين الوضعية إلى القوانين الإسلامية لا بد أن يأخذ طريقة المشروع دون عنف أو إرهاب.

وأفاض فضيلة الإمام الشهيد "حسن البنا" في لقائنا الأول – في أهداف الدعوة، ووسائلها المشروعة، وكان يتكلم في صدق المخلصين، وأسى المحزونين على ما يصيب المسلمين في كل أنحاء الأرض، والطعنة التي أصابت المسلمين بالقضاء على الخلافة، وأنه إذا كان بعض الخلفاء قد أساءوا أو انحرفوا، فليس معنى ذلك أن الخلافة هي التي أساءت أو انحرفت، وهذا الأمر لا يجهله إنسان منصف؛ فالنظرية شيء والتطبيق شيء آخر.

ولما أنهي حديثة الذى لم أقاطعه فيه مرة سألنى: هل اقتنعت؟ وقبل أن أجيب قال في حزم: "لا تجب الآن" وأمامك أسبوع تراود نفسك فيه، فإني لا أدعوك في الأسبوع القادم للبيعة، وإن تحرجت فيكفينى منك أن تكون صديقًا للإخوان المسلمين.

وما كان لمن جلس هذه الجلسة، وسمع ما سمعت أن يتوانى عن البيعة لحظة، وعدت في الموعد، وبايعت، وتوكلت على الله، وإنها لأكبر سعادة لاقيتها في حياتي أن أكون من الإخوان المسلمين منذ أكثر من نصف قرن، وأن ألقى في سبيلها ما لقيت، مما أحتسبه عند الله، وأن يكون خالصًا لوجه الله تعالي .

هذه قصة اتصالي بالإمام الشهيد "حسن البنا" والإخوان المسلمين. لم يعدنا إمامنا فيها بالدنيا وإقبالها، والورود وازدهارها، والأزاهير ونعومتها، ولكنه أوضح أن طريق الدعوة مليء بالأشواك والمتاعب، والصعاب، فمن يقبل عن بصيرة، ولا يلومن أحدًا، فلم يخدعه أحد بالمرة.

وهكذا لما قبلوا راضين، ألف الله بين قلوبهم أجمعين، حتى تعجب الناس جميعًا من قوة الروابط التى تربط بين قلوب الإخوان جميعًا؛ حتى قال قائلهم: لو عطس أحد الإخوان في الإسكندرية لشمته الذين في أسوان، وأقول: لو تمنى أحد الإخوان في أوروبا أمنية لحققها له أخ في كندا، ما دام في حيز الإمكان، وما دام الأمر لم يكن فيه ما يغضب الله.

عمر التلمساني بين المال.. والدعوة

يقول: "قابلت أحد رؤساء الوزارات المصرية – ولا يزال حيًّا – لعمل خاص بالإخوان في زمن السادات، وبعد أن تبادلنا الحديث، إذا به يعرج على الناحية المالية، ويفاجئني قائلاً بأن الدول تدعم كل الصحف والمجلات المصرية، ومجلة الدعوة كمجلة إسلامية أحق المجلات بهذا الدعم، وأدركت ما يهدف إليه الرجل، فتملكت أعصابي، وأجبته في لغة عامية دراجة "يا شيخ... سايق عليك النبي ما تكلمنيش في هذه الناحية" وانتهت المقابلة، وانصرفت.

وذات مرة دعتني إحدى المجلات الدينية التي لا تزال تصدر حتى اليوم، إلى ندوة دينية تعقد في دارها.. وحضرت وأثناء الحوار بالندوة ذهبت إلى دورة المياه، وعند خروجي من الدورة وجدت أحد موظفي المجلة يقدم لي ورقة ويطلب مني التوقيع عليها. قلت: ما هذا؟ ولماذا؟ قال: هذا مقابل حضورك الندوة. قلت: لو كنت أعلم أن الدعوة إلى الله تدفعون لها مقابلا لما حضرت قال: مصاريف الركوب والانتقال... قلت: عندي سيارة أعدها الإخوان لمثل هذه الأمور: قال: ولكنهم جميعًا يأخذون. قلت: إنني لست من هذا الجميع أنا رجل على باب الله، وانصرفت طبعًا دون قبض أو توقيع.

ومرة كنت أؤدي فريضة الحج وفي (جدة) قابلني الأخ (م.ص)، وما يزال حيًّا – أطال الله في حياته- وقال: إن كبيرًا يريد مقابلتي ليس من الأسرة السعودية وإن كان له بها صلة، فرحبت مؤملاً في خير الدعوة، وتحدد الميعاد، وذهبت قبل الميعاد بخمس دقائق على الأقل، وحل الميعاد، واستدعى الكبير سكرتيره، ودعاني للدخول، فوجدت أحد أبناء المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود موجودًا معه، ولم يتحرك الرجل من مكانه؛ حتى وصلت إليه أمام كرسيه، فوقف، ولعله فعل ذلك محرجًا، وسلم وقد كنت ألبس شبشبًا وجلبابًا أبيض غير وجيه.

وجلس الكبير يتحدث عن الدعوة الإسلامية، ثم عرج على مجلة الدعوة، وكانت لم تصدر بعد وقال: إنه يريد تدعيمها، فأدركت هدفه، وقلت له مقاطعًا: سيادتكم طلبتم مقابلتي كداعية لا كجابٍ، ولو كنت أعلم أنك ستتحدث معي في مسألة نقود كنت اعتذرت عن المقابلة، ولذلك أرجو أن تسمح لي سيادتكم بالانصراف، فتلقى الرجل هذه الغضبة في هدوء، وقال: إني لم أقصد ما ذهبت إليه، ولكني كمسلم أردت تدعيم عمل إسلامي وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال ما معناه: "واستغن عمن شئت تكن أميره".

ولما انتهت خرج والكبير الآخر معي؛ حتى أوصلاني إلى باب المصعد، ولما ينصرفا إلا بعد أن أخذ المصعد في النزول.

وأذكر كذلك مرة أنني ذهبت إلى أحد بلاد المنطقة العربية بمناسبة افتتاح موسم ثقافي، وبعد أن تحدثت في حوالي عشرة أمكنة جاءني أحد الرسميين، ومعه ظرف به خمسة وعشرون ألف درهم. فقلت له ما هذا؟ وظن الرجل أنني أستصغر المبلغ. فقال: إن غيرك يأخذ نصف هذا المبلغ. فقلت له: إنك في وادٍ وأنا في  وادٍ آخر أنا لا آخذ أجرًا على كلمة ألقيها في سبيل الله، وإن كان لا بد من دفع هذا المبلغ فضعه في بنك من البنوك لحساب مجاهدي أفغانستان الأبرار.

وطلبت بعض الصحف أن أكتب فيها متواصلاً بأجر، فرفضت؛ لأني لست صحفيًا أولاً،  وسواء أكنت مصيبًا أو مخطئًا، فإنه أفضل دائماً أن يكون كلام الدعاة بلا مقابل، فذلك أدعى لاحترامهم، وأدعى أن يكون الكلام يبتغى به وجه الله، والله من وراء النية، والقصد.

صفات تهم الدعاة والمربين

ترك الأستاذ "عمر التلمساني" آثارًا طيبة لدى كل من عرفه، أو اتصل به؛ لما يتمتع به من صفاء النفس، ونقاء السريرة، وطيب الكلام، وحلو الحديث، وجمال العرض، وحسن الحوار والمجادلة.

وفي هذا يقول عن نفسه: "ما عرفت القسوة يومًا سبيلها إلى خلقي، ولا الحرص في الانتصار على أحد، ولذلك كنت لا أرى لي خصمًا، اللهم إلا إذا كان ذلك في الدفاع عن الحق، أو دعوة إلى العمل بكتاب الله تعالى على أن الخصومة من جانبهم لا من جانبي أنا ... لقد أخذت على نفسي عهدًا بألا أسيء إلى إنسان بكلمة نابية؛ حتى لو كنت معارضًا له في سياسته، وحتى لو آذاني.. ولذلك لم يحصل بيني، وبين إنسان صدام لمسألة شخصية".

ومن هنا نرى أنه لا يخرج من مجلس التلمساني إنسان إلا وهو يحمل في نفسه الإكبار، والتقدير والحب لهذا الداعية الفذ الذي تتلمذ علي يد الإمام البنا، وتخرج في مدرسته، وانتظم في سلك جماعته داعية صادقًا مخلصًا.

وكان شديد الحياء، كما لا حظ فيه ذلك كل من رآه عن كثب، وكان جليسه ومحاوره يشعر بأن الأحداث القاسية والطويلة التى غرسته في ظلمات السجون قد صهرت نفسه؛ حتى أنها لم تدع فيه مكانًا لغير الحقيقة التى يؤمن بها، حيث ظل خلف الأسوار أكثر من سبعة عشر عامًا ، حيث دخل السجن عام 1948م ، ثم في عام 1954م ، ثم في عام 1981م ، فما زادته الابتلاءات إلا صلابة وثباتًا.

وفي حديث له مع مجلة "اليمامة" السعودية بتاريخ 14/ 1 / 1982م قال: "إنني بطبيعتي التى نشأت عليها أكره العنف بأي صورة من صوره وهذا ليس موقفًا سياسيًا فقط، ولكنه موقف شخصي يرتبط بتكويني الذاتي، وحتى لو ظلمت فإنني لا ألجأ إلى العنف، من الممكن أن ألجأ إلى القوة التي تحدث التغيير، ولكني لا ألجأ إلى العنف أبداً".

مواقف من حياة الأستاذ "عمر التلمساني":

  دعي الأستاذ عمر التلمساني إلى ندوات ولقاءات بالشباب في السجن عام 1982م نظمتها أجهزة الدولة، واتفقت معه هذه الأجهزة على تكرار هذه الندوات، وكانت لها مآرب، ولكن ما كان لله دام واتصل، فعرض الأستاذ المرشد الأمر على إخوانه، فكان المؤيد، وكان المعارض، وانتهى الأمر بالموافقة.

فذهب الأستاذ عمر، وتحدث مع الشباب حوالي ساعتين على اختلاف اتجاهاتهم وانتهى اللقاء بأمر عجيب، فقد أقبل الشباب على فضيلة المرشد مصافحين، ومعانقين، ومقبلين الأيدي، وشاكرين النصيحة، وكشف الغشاوة. إنه توفيق الله، فقطعت الأجهزة هذه اللقاءات معه أبدًا، لأن الرياح جاءت بما لا يرضي الملاح.

 يقول الأستاذ "عمر التلمساني"رحمه الله: كان الإمام الشهيد يدعوني إلى السفر معه في بعض رحلاته داخل القطار ويسألني: هل السفر على حسابك أو على حسابنا؟ فإن كنت (متريشًا) من أتعاب قضية دسمة قلت: السفر على حسابي، وأقطع لهم تذاكر السفر في الدرجة الثانية، أما إذا كنت (مفرقع) الجيب قلت: السفر على حسابكم، فكان يقطع التذاكر في الدرجة الثالثة.

فكنت أجلس، ورأسي إلى الأرض؛ حتى لا يراني أحد من معارفي، وأنا أركب الدرجة الثالثة التي كنت آنف ركوبها، وكان الأستاذ يبتسم لمنظري الخجل، حتى إذا ما طالت عشرتي للإخوان أصبح ركوب الدرجة الثالثة عندي كركوب الأولى الممتازة دون حساسية أو تحرج.

 يقول الأستاذ "عمر التلمساني" رحمه الله: ذهبت مع الإمام الشهيد يومًا إلى شبين الكوم في حفل إخواني، وبعد صلاة العشاء وجدت الإخوان يجلسون كما يجلس الناس في سماط، وجاء الطعام فإذا به بيض مقلي، وجبن قديم، فملت على أذنه قائلاً: هل جئت بي إلى هنا لتجوعني؟! فقال هامساً: اسكت الله يسترك، ونادى أخاً فأحضر لي لحمًا مشويًا، وشيئًا من العنب.

عندما أفرج عن الأستاذ عمر التلمساني في آخر يونيو 1971م جاءه ضابط المعسكر وقال: لقد أفرج عنك... فاجمع حاجتك لتخرج، وكان الوقت بعد العشاء، فقال للضابط: ألا يمكن أن أبيت الليلة هنا، وأخرج صباحًا فإني قد نسيت طرقات القاهرة.

فدهش الضابط وقال: ماذا تقول؟ ألم تضق بالسجن وتود الخروج منه فوراً؟ قال: بل أفضل أن أبيت هنا هذه الليلة، وأخرج صباحًا.

قال: هذه مسئولية لا أستطيع تحملها، تفضل اخرج من السجن، ونم على بابه إلى أي وقت تشاء، فطلبت تاكسي فأحضره، وعاد الأستاذ إلى منزله فيقول: والعجيب حقًا أنني عندما التقيت بأهلي وأقاربي لم أحس بتغير كبير في مشاعري، وكأني لم أفارقهم إلا بالأمس، ما السر في هذا ؟ لست أدري!!

  وجه أحد المراسلين في لندن له سؤالاً: لماذا تتهرب من الإجابات عن أسئلة واضحة؟ فكان جوابه: "إن التهرب ليس من خلقي، ولكن طباعي تأبى عليَّ أن أنقد حكومتى خارج وطني، ولا أشنع عليها في الخارج، بل أوجه مآخذي إليها مباشرة داخل مصر، وهو مبدأ وليس سياسة".

  في إحدى الندوات التي عقدها الصحفيون بدولة الإمارات مع الأستاذ "عمر التلمساني" عام 1982م بعد حملة الاعتقالات الساداتية، وجه إليه أحد الصحفيين هذا السؤال: ما رأيكم في حكام مصر، ومعاهدة "كامب ديفيد"؟.

فأجاب الأستاذ: أحب أوجه نظر الأخ السائل إلى أنني لم آت هنا؛ لأشتم حكامنا، ورأينا نعلنه بكل صراحة ووضوح أول ما نعلنه على صفحات الجرائد والمجلات المصرية. فقد تعلمنا من الإسلام الصراحة مع عفة اللسان قال رسول الله r: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".

عمر التلمساني.. وداعًا:

لقد اختاره الله إلى جواره يوم الأربعاء 13 من رمضان المبارك عام 1406هـ 22/5/1986م حيث توفي بالمستشفي بعد معاناة مع المرض عن عمر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة – وقيل نصف مليون – من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التى قدمت من خارج مصر.

لم تشهد مصر، على مدى نصف القرن الأخير وداعًا مثل الوداع الذى كان عند رحيل الأستاذ عمر التلمساني، في ضخامته، وتلقائيته، ومصداقيته وعاطفة المودعين الجياشة.

لن ننسى منظر الشباب دون العشرين، وفوق العشرين... الذين جاءوا من مدن مصر، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، والرائد، والقائد، والمرشد، والرمز.

حامل لواء الدعوة الإسلامية على مستوى العالم الذى استطاع على مدى السنوات العشر الأخيرة، أن يعيد للحركة الإسلامية المعاصرة – وطليعتها الإخوان المسلمون – صفاءها، ونقاءها، وسماحتها، ويرد عنها كل السهام المسمومة التي وجهت إليها، والتهم الباطلة التى ألصقت بها، ويدحض كل الافتراءات التي افتراها ضدها المفترون، على مدى ثلث القرن الأخير، ويستل السخيمة من قلوب الأعداء؛ حتى صاروا له أصدقاء.

لقد استطاع الأستاذ "عمر" رحمه الله بأدبه، وحيائه، ودماثة خلقه، ولينه، وصدقه، وتجرده، وإخلاصه، وصراحته، وشجاعته، وتواضعه، ودأبه، وإصراره، وحكمته أن يحقق لجماعة الإخوان الوجود الفعلي والواقعي، وأن يعيد لها ثقلها في المسرح السياسي على المستوى المصري والعربي، والإسلامي والعالمي.

مات المجاهد عمر التلمساني... فقال الشعب المصري من جديد: نعم للإخوان المسلمين!!

ولم تُخف الحكومة ثقتها في الإخوان المسلمين.. فشاركت في تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر، وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي.. العربي والإسلامي.

حتى الكنيسة المصرية قالت: نعم للإخوان المسلمين، وشارك وفدها رئاسة الأنبا نمريعريوس في تشييع الجثمان.

هدمت الكنيسة القول الظالم والشائعات المغرضة بأن الإخوان المسلمين ضد الوحدة الوطنية!!

وعلى استحياء قالت وسائل الإعلام: نعم للإخوان المسلمين.. فنشرت خبر الوفاة.. وأثنت على الراحل.. حتى إن إبراهيم سعده رئيس تحرير أخبار اليوم قال بالحرف الواحد: مات عمر التلمساني.. صمام الأمان.. لجماعة... وشعب... ووطن!!

وقال اليساريون المصريون أيضًا... نعم... فحضروا وشيعوا الجثمان!!

وقالت إذاعة راديو أمريكا: إن هذه الجنازة أظهرت قوة وفعالية التيار الإسلامي في مصر خاصة أن أغلبية من حضروا كانوا من الشباب.

وكتبت مجلة "كريزنت إنترناشيونال" في عددها الصادر في 1/6/1986م "بوفاة التلمساني تفقد الحركة الإسلامية جمعاء واحدًا من أبرز رجالها العاملين وستظل تضحياته للإسلام محلاً للذكرى إلى أمد بعيد.

مؤلفات الأستاذ "عمر التلمساني":

 ذكريات لا مذكرات.

شهيد المحراب.

حسن البنا الملهم الموهوب.

بعض ما علمني الإخوان.

في رياض التوحيد.

المخرج الإسلامي من المأزق السياسي.

الإسلام والحكومة الدينية.

الإسلام ونظرته السامية للمرأة.

قال الناس ولم أقل في عهد عبد الناصر.

من صفات العابدين.

يا حكام المسلمين.. ألا تخافون الله؟!.

لا نخاف السلام ولكن.

الإسلام والحياة.

حول رسالة نحو النور.

من فقه الإعلام الإسلامي.

أيام مع السادات.

آراء في الدين والسياسة.

 

المراجع:

من أعلام الحركة الإسلامية للمستشار "عبد الله العقيل".

مائة موقف من حياة المرشدين لجماعة الإخوان المسلمين لمحمد عبد الحليم حامد.

عمر التلمساني وداعًا.

ذكريات .. لا مذكرات للأستاذ عمر التلمساني. 

أضف تعليقك