عامر شماخ
لا يصدق المجردون من العقيدة قصة انتصار المسلمين على المشركين فى غزوة بدر التى تحل ذكراها هذه الأيام (17 من رمضان/2 هـ) والتى وردت تفاصيلها فى كتب السيرة واستغرقت مساحة كبيرة من سورة الأنفال. لا يستوعب ما جرى فى هذه الغزوة إلا أهل الإيمان؛ الواثقون بأن الأمر كله لله، الباذلون النفس والمال، الفدائيون الأوفياء لدينهم وأوطانهم، المخلصون الصادقون.
إذ كيف لـ(314 مسلمًا) لديهم فرَسَان اثنان يقتلون (70 قرشيًّا) ويأسرون (70 آخرين) وجيشهم فيه (1000 مشرك) ويصطحبون (200 فرس) ومئات الجمال، ويملكون المال والصيت وحمية الجاهلية، ومِنْ ورائهم داعمون قبليون لا حصر لأعدادهم؟
إنها النبوة، والرسالة، والدين العظيم الذى أنشأ أتباعه على هذه الصورة من الشجاعة والإقدام، ورباهم على معانى الولاء والبراء، وحبب إليهم الجهاد فى سبيل الله حتى صارت الشهادة أسمى أمانيهم. إن جيش المسلمين فى بدر ليس كجيوش المسلمين الآن التى لها قصب السبق فى إحراز الهزائم؛ لانحراف عقيدتها القتالية إنما كان جيشًا ذا فكرة، وجماعة ذات هدف، شعارهم (أحد، أحد) يقاتلون فى سبيل الله، لا يبغون سمعة ولا رياء، يفعلون ذلك لتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؛ وليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..
فى هذا اليوم المشهود (يوم الفرقان)، (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ…) [الأنفال: 41] حدثت أعاجيب بفضل الإيمان، والصبر والإخلاص. وهى دروس لمسلمى العصر الحالى الذين أحبوا الدنيا فقذف الله فى قلوبهم الوهن حتى صاروا غثاء كغثاء السيل، وحتى فرض الكفار الجزية عليهم، وحتى صار حكامهم يصابون بالرعب من حكام ورؤساء الغرب فيستسلمون لهم خانعين. فى يوم بدر ظهرت آثار التربية الإسلامية النبوية التى امتدت لثلاثة عشر عامًا، فكانت العقول النيرة، والقلوب النقية المخلصة المشتاقة للقاء الله التى ليس بها تردد أو جزع..
راجعوا حوارى المقداد وسعد بن معاذ لتدركوا كيف فعل الإسلام بهؤلاء الناس، وكيف حولهم هذا التحول، إنها النفوس الطاهرة التى لا يشوبها قذر الجاهلية والتى جعلت كل همها مرضاة الله وإدخال السرور على نبيه المصطفى. يقول سعد: «امض يا رسول لما أردت، فوالذى بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد…»، ومثلهما عمير بن الحمام الذى أثاره قول النبى -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»؛ فجعل يراجع النبى فى أوصاف تلك الجنة، ثم إنه اعتبر تناول تمرات كانت فى يده تباطئًا على اللحاق بهذا الفردوس، فألقاها مرددًا «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة»، ثم دخل فى العدو فقاتلهم حتى قُتل رضى الله عنه..
إن هذه النفوس الموصولة بالسماء حق لها أن تنال توفيق الله؛ ولو كانوا قلة، ولو كانوا لا يملكون مثلما يملك العدو من عدة؛ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، هذا وعد الله (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26]. ونصر الله لا يؤتاه قاعد، ولا عاجز ولا جبان، وإنهم -من فضل الله عليهم- كانوا برءاء من كل ذلك، أعدوا العدة، ووحدوا الصف، وأخذوا الحيطة والحذر، وتشاوروا كما أمرهم ربهم، وقيل قد كان معهم أسلحة لم يعرفها العرب من قبل؛ أى راعوا ما يراعيه أهل الدنيا، ثم استغاثوا بمن بيده الأمر كله، كانت الاستغاثة جماعية (إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]، وكان القائد – بعد أن اطمأن إلى قواه العسكرية -مبتهلاً فزعًا إلى ربه بالدعاء، قائلاً: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد)، فلم تزل عينه على السماء حتى قال له الصديق: (حسبك يا رسول الله، لقد ألححت على ربك)..
هكذا يتنزل النصر: استعداد قدر الطاقة (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ…) [الأنفال: 60]؛ فمشاورة ليس بها استبداد، فتقوى، فصبر وحسن توكل، ثم لا ينقطع الدعاء. والنتيجة كانت ذلك النصر الكبير؛ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17]، (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123]، (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
وتحكى (الأنفال) صور ذلك الدعم الإلهى حتى تجرأ جند الله على الكافرين بعدما رأوهم قلة، وأرسل الله جنودًا يحاربون المشركين على أرض المعركة وجهًا لوجه حتى جاء رجل من الأنصار بالعباس وقد أسره، فقال العباس: يا رسول الله! ليس هذا أسرنى، بل أسرنى رجل أنزع. وأرسل عليهم المطر ليطهرهم ويثبت أقدامهم وتطيش به أقدام أعدائهم.
إنها تقوى الله، والاعتصام بحبله، واللجوء إليه، والبراءة من الطيش الأوهام، وعدم التعلق بحمية وأسباب ما أنزل الله بها من سلطان. يلخص حسان ذلك فى بيتين من الشعر، يقول: «فما نخشى بحول الله قومًا.. وإن كثروا وأجمعت الزحوفُ؛ إذا ما ألَّبُوا جمعًا علينا.. كفانا حدهم ربٌ رءوف(. سبحانه، نعم المولى ونعم النصير.
أضف تعليقك