بقلم.. وائل قنديل
هل يعرف الطيارون الذين قادوا المروحيات المصرية للمساعدة في إنقاذ العدو الصهيوني من الحرائق أنه في أزمنةٍ أكثر احترامًا كان أجدادهم يحفرون بأظافرهم في الصخر، ويحرمون أنفسهم من متع الحياة، لكي يدبّروا ما ينفقونه على تعليم أولادهم في كليات الحرب من أجل القضاء على عصابات الاحتلال الصهيوني؟
هل فكّروا فيما سيحكونه لأطفالهم في المستقبل عن طلعاتهم الجوية لتدمير مساكن أهلنا في سيناء، ثم تحليقهم فوق أرض فلسطين المحتلة، لإنقاذ العدو من الحرائق؟
كيف استقبل هؤلاء عبارات الحفاوة الصهيونية بهم، بوصفهم "الصديق وقت الضيق"، كما ذكرت البيانات الرسمية، وتصريحات بنيامين نتنياهو وهو يشكر صديقه عبد الفتاح السيسي؟
كانت الدكتاتوريات العربية القديمة تتغذّى على معاداة المشروع الصهيوني، فتلعب على مشاعر الجماهير التي تكره الاحتلال بالفطرة، وترفض الخضوع له بحكم المنطق والعقيدة وقيم الحق والخير، وترى نفسها طرفًا مباشرًا في الصراع معه، بحكم مشاعر الأخوة والمصير المشترك، على قاعدة "كل أخِ عربي أخي".
في طفولتنا، كانت شعارات الثأر من العدو وعبارات الأسى على فلسطين والشوق لتحريرها، جزءًا أساسيًا من جغرافيا الشوارع والحارات في القرى والمدن، وكان حلم الصبا للتلاميذ في تلك الفترة، الفوارة، الالتحاق بواحدة من الكليات العسكرية، من أجل الانتصار على العدو وتحرير فلسطين.
وسواء كان عداء أنظمة الاستبداد العربي للمشروع الصهيوني حقيقيًا وصادقًا، أم استثمارًا في مشاعر الجماهير، لحبسها في "صندوق حلم التحرير"، إلا أن التناقض مع الكيان الصهيوني كان من دواعي الإحساس بالفخر والشرف، رسميًا وشعبيًا.
نحن الآن، بصدد نوعيةٍ جديدةٍ من الديكتاتوريات العربية، يمكنك أن تطلق عليها الجيل الثالث من الطغيان الصغير، الذي يتناقض تمامًا مع أسلافه من قبائل الاستبداد، إذ يتغذّى الجيل الجديد بالرضاعة من ضروع المشروع الصهيوني، ويغيظ أقرانه ويتيه عليهم بأنه الأكثر قربًا من الصهيوني، والأشد دأبًا ومثابرة على انتزاع عبارات الثناء والتشجيع منه، والأحرص على أداء التمارين اليومية ليكون أكثر لياقة من غيره على خدمته.
وإذا كان كلا الجيلين الأقدم والأحدث من المستبدين العرب قد جاء في معظمه نتيجة انقلابات عسكرية لانتزاع السلطة، إلا أن ثمة فوارق كاشفة بينهما، تظهر معها فكرة الانقلابات العسكرية ذاتها وقد ابتذلت وتصاغرت، إذ كانت الموجة الأولى من الانقلابات تتوشّح بعبارات رنانة عن كرامة الوطن وكبريائه واستقلاله السياسي والاقتصادي.
أما مع الموجات الجديدة، ممثلة في نماذج عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر والمتنافسين من عسكر السودان، فقد باتت أقرب إلى التوكيلات التجارية، وإن بصبغة سياسية، إذ تأتي استجابة لإرادات خارجية، وتنفيذًا لمشاريع الـ(BOT)، وهي صيغة قديمة في المشروعات التمويلية التي تقوم على إعطاء المستثمر الخارجي امتياز بناء وتشغيل وإدارة واستثمار مشاريع استراتيجية مددا تصل إلى عشرات الأعوام، ويحصل على عوائدها وأرباحها، وحده، حتى يسترد ما أنفقه على إنشائها.
تتجلى هذه الآلية بشكل صارخ في حالة انقلاب السيسي الذي يرهن كل شيء إلى المستثمر الإماراتي، من البنية الأساسية للاقتصاد، إلى القرار السياسي، بحيث تبدو مصر معه أقرب إلى مؤسسةٍ ربحية تتحكم في إدارتها وتشغيلها أبو ظبي، إلى أن تستعيد ما أنفقته لتمويل هدم النظام السياسي، الشرعي فيها، وإقامة نظام جديد، بالمواصفات التي ترضي المتحكّم الأول في المنطقة.
في هذه الوضعية، هناك تراتبية وظيفية، تبدأ من السيسي، صعودًا إلى بن سلمان، والإمارات، وصولًا إلى الكيان الصهيوني، المشرف العام، أو المرجع الأعلى في هذا التحالف الإقليمي الذي يقاتل على أكثر من جبهة لسحق أية محاولة جماهيرية عربية للانعتاق من التبعية للمشروع الصهيوني. وهو السيناريو نفسه، الذي يراد تكراره مع السودان، إذ تنشط الشركة القابضة للانقلابات الحديثة على عدة محاور لفرض النموذج المصري (السيسي) على السودانيين، بالطريقة ذاتها التي يحاربون بها من أجل تثبيت انقلاب الجنرال خليفة حفتر في ليبيا.
أضف تعليقك