بقلم عامر شماخ
إذا كان الله قد امتنَّ على عباده فجعل فى أيام دهرهم نفحات أمرهم بالتعرض لها لعله أن يصيبهم نفحة منها فلا يشقون بعدها أبدًا –فإن أيام وليالى رمضان الأخيرة تأتى على رأس الأيام الفاضلة والأوقات المباركة، وقد ورد فى خيريتها الكثير من الأخبار لا يتسع المقام لذكرها.
خولا زالت أمامنا الفرصة كى نلحق بركب الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؛ فنجعل ما بقى من أيام وليالى رمضان أوقات ذكر ودعاء، ومناجاة وابتهال، ونحن فى أمسّ الحاجة إلى الإيناس بالله، والاطمئنان بذكره، وهو قريب، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويبدل الحال من بعد عسر يسرًا. ولنا فى نبينا –صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة؛ فلقد كان ينتظر أيام العشر من كل عام فيعد لها العدة، ويهيئ نفسه لاغتنامها. عن عائشة –رضى الله عنها-: (كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر).
والمسلم مطالب بالدعاء وبذكر الله على كل حال (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ …) [غافر: 60]، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ …) [الفرقان: 77]، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]. ويقول النبى – صلى الله عليه وسلم-: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وهذه الأيام تدريب للنفس على ذلك، وتوطين لها على المداومة والصبر على هذه الطاعة والخير، الذى اعتبره العلماء فنًّا يحتاج تمرينًا ودُربة، وكان المعصوم –صلى الله عليه وسلم- أستاذ البشرية فى هذا الأمر، وضع فيه الشيخ محمد الغزالى –رحمه الله- كتابًا بعنوان: (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء) فصَّل فيه أشكال هذا الفن وأقسامه وصفاته وميزاته، واستطرد فى فضل النبى –صلى الله عليه وسلم- على الناس؛ إذ دلهم على جوامع الخير ومفاتيح الرشاد، وقد كان –صلى الله عليه وسلم- عامر القلب بربه، عميق الحسّ بعظمته، وكان ذلك أساس علاقته بالعباد وبرب العباد.
(لقد أنشأ محمد –صلى الله عليه وسلم- جيلًا من الناس يباهى الله بهم ملائكته؛ لأنهم قطعوا كل الجوانب الأرضية، وكل إغراءات هذه الدار العاجلة، ومشوا وراء نبيهم –صلى الله عليه وسلم- المتفانى فى مرضاة ربه، الناشد لوجهه وحده، المرتبط بهذه الكلمان النقية (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، وكان –صلى الله عليه وسلم- يرغّب أمته فى استقبال الليل بكيان نقى نظيف فيقول: (طهروا هذه الأجساد طهركم الله تعالى؛ فإنه لا يبيت أحدٌ طاهرًا إلا بات فى شعاره ملك يقول: اللهم اغفر له فإنه بات طاهرًا)، (وكان الصحابة –رضوان الله عليهم- يستمتعون فى جوار النبى بربيع دائم من الأنس بالله، والهتاف باسمه)، (وكان –صلى الله عليه وسلم- يمقت مجالس الغافلين، ويشمئز من كل تجمع خلا من ذكر الله)، (لقد كان ينشد الحياة القوية العزيزة، البعيدة عن متاعب البأساء والضراء).
ولا يتحقق الأنس بالله إلا بكثرة الثناء عليه، وترديد أسمائه الحسنى، واستحضار معانى صفاته –عز وجل- واليقين بأنه –سبحانه- لا يعجزه شىء.. (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا مانع لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت)، والله –عز وجل- هو ملك الملوك ورب الأرباب، والملك يعطى لمجرد مديحه فلا ينتظر حتى يسأله السائل، والسائلون الأذكياء يعرفون مداخل الملوك ومفاتيح عطائهم، وربك الرحمن له تسعة وتسعون اسمًا، فادعه بها، وقدمها بين يدى حاجتك، وإياك أن تدخل عليه دخول الجاهلين، بل ادخل حسب (المراسيم)، وعامل الملك بما يليق، وقد قال الشاعر فى ذلك (أأذكر حاجتى أم قد كفانى… حياؤك إن شيمتك الحياء؛ إذا أثنى عليك المرء يومًا… كفاه من تعرضه الثناء)
ولا شىء أبلغ فى احتمال العسر والصبر على البأساء والضراء من قيام الليل الذى اقترن بالشهر الفضيل وخصوصًا أيامه العشر الأخيرة. إنه عبادة المخلصين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع شوقًا إلى الله وخوفًا من فوات لقائه، وهو المدرسة التى تربى فيها العظماء الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وإن المتهجدين هم الشامة فى الناس، أهل الحلم والوقار والصبر (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا) [المزمل: 6].
أكثر من الاستغفار ينفرج همك، وسبح بحمد ربك تعش راضيًا. عن ابن عباس –رضى الله عنهما- عن النبى –صلى الله عليه وسلم-: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب). إن ذكر الله يفتح المغاليق، ويحل على صاحبه السعادة والهناء، يقول النبى: (إن الله –تعالى- يقول: أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه)، إنه الفرار إلى الله، والاحتماء به، والاعتراف بفضله وقوته، ولولا الذكر والاستغفار واللجوء إلى الله فى أوقات الشدة لعظمت المصيبة، ولهلك العباد. يقول الله –تعالى- فى شأن يونس –عليه السلام-: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143، 144].
الحمد لله الذى لا ينسى من ذكره، الحمد لله الذى لا يخيب من دعاه، الحمد لله الذى لا يكل من توكل عليه إلى غيره، الحمد لله الذى هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل، الحمد لله الذى هو رجاؤنا حين تسوء ظنوننا بأعمالنا، الحمد لله الذى يكشف ضرنا عند كربنا، الحمد لله الذى يجزى بالإحسان إحسانًا.
أضف تعليقك