ابتليت الأمة الإسلامية منذ عصور طويلة بمحاولات جادة- ومنذ أن نهضت الدول الغربية- بإلهاء الأمة الإسلامية عن شعائر دينها ومنهج قرآنها والتي تمثل مصدر قوتهم، وزرع بينهم سياسة الفرقة وحب الدنيا وكراهية العزة والحرية.
ولذا ما أن انتصرت المدنية الصناعية في الغرب حتى انطلقوا لنهب ثورات الشعوب ونشر موجات الإلحاد، وصرف الناس عن حقيقية دينهم، وساعدهم على ذلك ضعف الخلافة الإسلامية وانبهار الشعوب بما وصلت إلية المدنية الغربية من تقدم ، ومساعدة كثير من المثقفين لهم على المناداة بأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها، والانفكاك من التعاليم والشعائر التي تأتي عبر مئات القرون متمثلة في القرآن والسنة وتعاليم الدين
وبالفعل نسى الناس شعائر دينهم وانبهروا بما أتى لهم حتى تجاهلوا السنن – خاصة التي كانت توحدهم وتجمع شملهم- واستمر الحال حتى بلغ الفروض التي فرضها الدين، ونجح المستعمر أن يجعل الأمة الإسلامية طوائف وشيع يتناحر بعضهم البعض على خلاف فقهي أو موروثات عتيقة سطرها ودسها البعض في حواشي كتبهم.
اجتاحت الجيوش الغربية البلاد الإسلامية من شرقها لغربها بهدف السيطرة على مقدراتها وثرواتها، ولطمس هويتها الإسلامية وزرع الفرقة بينهم، واستخدموا القمع والقتل والدمار لتمكين سيطرتهم، وبالفعل تحققت لهم بعض النتائج، ولولا رجالا مؤمنون ونساء مؤمنات لتحقق لهم الغرض الكامل بضياع الدين
سنة منسية
قيض الله سبحانه لهذه الأمة ولدينه من يذود عنه بنفس راضية وقلوب واعية وعقيدة راسخة، فظهرت جماعات وأفراد يصرخون في قلوب الناس بالحمية من أجل دينهم وشعائرهم التي عمل أذاب الغرب على طمسها، ومن هذه الشعائر المجمعة للقلوب والنفوس هى شعيرة صلاة الخلاء، والتي كانت مظهر من مظاهر تلاحم الأمة وتركت الفزع في قلوب المحتل فعمل على تشويهها وطمسها
حتى تلاقت بعض القلوب ونفضت عنها غبار السنين ووجدت أن قوتنا في وحدتنا فأشاعوا في الناس بهذه الشعير والتي واجهت عاصفة -خاصة من العلماء الرسميين- الذين ساروا على ما قرأوا من جمود في الدين وشطط في الرأي إلا أن هذه القلوب الواثقة دافعت عن شعائر الله بلين القلوب، وتحبيب الناس في شعائر الله حتى تلقفتها قلوب صادقة من الشعوب ودافعت عنها حتى أصبحت وبعد مرور عشرات السنين مظهر من المظاهر التي يحرص عليه جموع المسلمين
لقد بدأ حسن البنا دعوته في تربية المجتمع على المعاني الإسلامية التي طمسها الاحتلال، فرسَّخ الفرائض وأحيى السنة في نفوس الأمة، وخطب يقول: ومن شعائر عيدنا التزاور والتواد، ونسيان الشحناء والبغضاء والحزازات، وصلة الأرحام، وتفقد الأقارب، والإكثار من الصدقة على الضعفاء والأيتام…ذلك عيدنا الشرعي نقوم بشعائره امتثالا لأمر الله واحتسابًا
وما كاد حسن البنا يحاول نشر فقه إحياء السنن المنسية ومنها تجمع المسلمين في الخلاء مرددين (الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) حتى انطلقت الألسن تغمزه وتتهمه بالبدعة في أمر دينه
يقول: وبينما نحن نقرر هذه الأحكام إذ اقترح أحد المستمعين أن نحيي هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر في الصحراء ، وبخاصة وليس بالإسماعيلية حينذاك إلا مساجد صغيرة لا تتسع لبضع أهل البلد فضلاً عن كلهم ، ومن حولها صحراء قد اتسعت لجنود الاحتلال فتحمس السامعون جميعاً لهذا الاقتراح فلم أر بداً من موافقتهم عليه ولكن بعد أن نستشير العلماء ونتفق معهم على أسلوب التنفيذ فإن وافقوا فذاك وإلا فإن اجتماع الآراء على خلاف الأولى أفضل من افتراقها وتشتيت الكلمة على ما هو أفضل.
وحاولت أن أخطو هذه الخطوة فإذا بي أفاجأ بحملة عنيفة من المتربصين بالدعوة واتهامات قاسية بأن هذه ابتداع بالدين وتعطيل للمساجد ومحاربة للإسلام وإفتاء بالباطل، ومن ذا الذي يقول: إن الشارع أفضل من الجامع ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وانتشر الخبر بسرعة البرق وأصبح حديث الناس في المقاهي والمساجد والمجتمعات العامة والخاصة وكانت حملة يا لها من حملة. وتصادف أنني كنت حينذاك معتكفاً العشر الأواخر من رمضان بالمسجد العباسي، فكان الناس يتقاطرون علي عقب كل صلاة ويسألونني عن هذه البدعة الجديدة وأنا أستغرب هذه الحملة التي لا أساس لها، وأقرر حكم الدين بكل بساطة وبراءة وأطلع الناس على النصوص الفقهية في هذا المعنى. وأتجنب الجدل والمراء وأوصي بجمع الكلمة والبعد عن الخصومة ولكن الأمر كان قد خرج من يدي ويد العلماء وتحمس الجمهور للحق والسنة وأعلنوا أن الصلاة ستكون ظاهر البلد، وأعدوا المصلى لذلك فعلاً وكنت لا بد أن أحضر إلى القاهرة لأقضي العيد مع الأهل فيها. فحضرت ليلة العيد ورتب الناس أنفسهم وصلى بهم الشيخ محمد مدين إمام مسجد العرايشية. وكان سرور الناس وانشراحهم بهذا المظهر الإسلامي عظيماً، وحلت في نفوسهم بركة السنة النبوية المطهرة، وعدت من إجازة العيد ورأيت آثار هذا الارتياح بادية على كل وجه، وخمدت العاصفة المغرضة وتقررت السنة المباركة واستمرت صلاة العيدين إلى الآن ظاهر البلد في مهرجان جميل.
وفي العيد التالي اقترح الإمام البنا على مجلسه الذي كان يعقده في بيت الحاج حسين الزملوط أن يخرج الناس إلى الشوارع ليكبِّروا جميعًا تكبيرة العيد، فوافق الناس وخرجوا ليطوفوا بحي العرب بالإسماعيلية في مظاهرة حافلة يشق تكبيرها عنان السماء، ، ولكن تلك المسيرة لم يكن لها أن تسير أو تقترب من الحي الإفرنجي الذي يسكنه الأجانب، ولكن الإمام البنا أراد أن يكسر الحاجز النفسي عند أهل الإسماعيلية فاقترح أن تعبر المسيرة شارع الثلاثيني لتجوب شارعًا أو شارعين من الحي الإفرنجي.
ثم بعد ذلك وفي العام التالي راحت مسيرات العيد تمتد من شارع إلى شارع داخل الحي الإفرنجي؛ مما أزعج الإنجليز، فما كان منهم إلا أن طلبوا نقل الإمام الشهيد حسن البنا من الإسماعيلية واعترض الناس على هذا الأمر وظلوا كذلك حتى وافقت وزارة المعارف على إلغاء النقل، وظلت صلاة العيد تقام في الخلاء كل عام وحرص عليها أهل الإسماعيلية وتناقلتها المدن والقرى القريبة منها وانتشرت الشعيرة حتى تجاوزت حدود الإسماعيلية في وقت قصير وحرص الناس عليها كل عيد.
قال الله تعالى[ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ]{الحج 32}، فعلى الأمة أن تحرص على شعائر دينها وتعظيمها، في ظل الحملات المسعورة على طمس هوية الأمة الإسلامية، بمحاولة حصر أمور الدين في زوايا ضيقة من المساجد، كما حصروا الفقه بين الخلاء وإتباع الجنائز.
أضف تعليقك