بقلم: د. محمد عبدالوهاب
أمتنا الإسلامية تتميز بأن ربها واحد، ورسولها واحد، وكتابها واحد، وحدة في المصدر، ووحدة في التلقي، ووحدة في المنهج جعلها تتميز بوحدة في مشاعرها، ووحدة في شعائرها، ووحدة في شرائعها، هذه الوحدة وهذا الاعتصام بالله- سبحانه- ومنهجه أمل يحتاج من كل مسلم عمل يحققه، فلا خلاف بيننا في أصول ديننا، ولكن الخلاف في فهم بعض الفرعيات مما لا يؤدي إلى التفرق الديني، لأن الخلاف في الفروع اختلاف تنوع ورحمة وسعة للأمة وليس اختلاف تضاد وفرقة، وقد اختلف أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- في آرائهم ولكن لم تختلف قلوبهم، وما قصة صلاة العصر في بني قريظة منا ببعيد، ومهمتنا الأساسية كمسلمين أفرادًا وجماعات، أن نعمل على جمع الأمة - خاصة في هذا الوقت العصيب - على أمرين:
الأول: جمع الناس على كلمة التوحيد.
الثاني: العمل على توحيد الكلمة.
نجمع الأمة على كلمة التوحيد كأصول الإيمان وأصول العبادات، والبعد عن المتشابه من المسائل والقضايا التي اختلف فيها السابقون وليس لها في واقعنا وجود، فالإيمان عندنا يقين يُحرك لا قضايا تُؤرق، أصول توحد وتجمع لا شبهات تُمزق وتُفرق، فتجتمع الأمة وتتوحد كلمتها، لكن البعض منا نسى هذه المهمة وانحرف بدعوته وجمعيته التي ينتسب إليها بدلاً من أن تكون جمعية دعوة إسلامية جعلها جمعية مذهبية تنتصر لرأي فقهي معين وتتبنى قولاً لإمام معين أو اتباع لمذهب محدد، وهذا من ضيق الأفق وتحجر العقول الذي يزيد من فرقة الأمة بل الأدهى من ذلك أنه جعل من رأيه أو رأي بعض شيوخه هو الصواب المحض الذي لا يحتمل الخطأ، ورأي غيره هو الخطأ الذي لا يحتمل الصواب، ومنهم من يظن (بعض الظن إثم) أنه قد احتكر الصواب وحده ونصب نفسه مهيمنًا على عقول الناس وادعى أن الفقه هو الرأي الواحد، ويقصد بذلك ما تبناه هو من رأي، من ذلك ما نراه كل عام إذا أقبل شهر رمضان بدلاً من أن نتخذه مناسبة لجمع القلوب وتوحيد الصفوف واستشعار إيمانيات هذا الشهر الكريم الذي تُغلق فيه أبواب النيران، وتُفَتَحُ فيه أبواب الجِنان، وتُصَفَدُ فيه الشياطين، إذا بضعاف العقول يشحذون هممهم الهابطة وألسنتهم الحِداد ويجعلونها معركة حياة أو موت بين أهل القبلة الواحدة ويعلنوها حربًّا شعواء حول (إخراج زكاة الفطر قيمةً أو حبوبًا).
ولا تهدأ المعركة حتى ينتهي رمضان مشككين للناس في عبادتهم متطاولين على أئمة الإسلام وعلمائه، ويتركون بل ويتهاونون فيما هو أعظم خطرًا على الأمة من ذلك، كالفساد والظلم الذي تعانيه أمتنا ودعوات الانحلال والعلمانية التي تنفث سمومها بين أبناء ديننا، ناسين أو متغافلين يجب أن نوازن بين نصوص الشرع الجزئية والمقاصد الكلية، ونفهم الجزئيات في إطار الكليات، ونرد الفروع إلى الأصول، ونراعي ما فيه الخير للناس ملتزمين جانب التيسير الذي هو منهج النبوة، فما خُيِرَّ رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، ونعى قواعد الشرع- المشقة تجلب اليسر- إذا ضاق الأمر اتسع، ما بني من النصوص على عرف زمني ثم تغير العرف ينظر إلى مقصود النص وغير ذلك الكثير، وفي هذا البحث لن تجد فيه انتصارًا لرأي على رأي، وإنما هو محاولة لاستجلاء الأمر والتعرف على آراء العلماء الأجلاء في هذه المسألة اليسيرة، فإن أصبت ووفقت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وحسبي أن التقصير وعدم الكمال صفة من صفات الإنسان.
وما توفيقي إلا بالله..
زكاة الفطر
سميت زكاة تجاوزًا، وهي تسمى بصدقة الفطر، وتسمى بالفطرة، أي صدقة الخِلقة وهي صدقة على الأبدان، أما الزكاة فهي على الأموال.
شُرِعَتْ في السنة الثانية من الهجرة، قيل في شعبان، وقيل في رمضان.
حكمة مشروعيتها:
روى أبو داود عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين).
فهذه الحكمة مركبة من أمرين:
الأول: طُهرة للصائم.
الثاني: سد حاجة الفقير.
على من تجب صدقة الفطر؟
- قال جمهور العلماء إن صدقة الفطر تجب على كل مسلم عن نفسه ومن يعول وتلزمه نفقته من زوجة وأولاد أو والدين ينفق عليهما، وكل من ولد له قبل غروب آخر يوم من رمضان، ودليلهم ما رواه الجماعة عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين).
- وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري- رحمهما الله- لا تجب إلا على من وجب عليه الصوم لأنها وجبت تطهيرًا، والصبي ليس محتاجًا إلى تطهير لعدم الإثم، ودليلهم حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة لصائم من اللغو والرفث).
وقد رد عليهم الإمام ابن حزم- رحمه الله- فقال: إن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب كما أن بعض الأحاديث ذكرت حكمة أخرى لإيجاب هذه الزكاة وأنها (طعمة للمساكين)، وحديث "أغنوهم في هذا اليوم"، فإذا كانت صدقة الفطر تطهيرًا من جانب، فهي طُعمة وإغناء من جانب آخر، وهذه حكمة تنطبق على الصغير، كما تنطبق على الكبير.
والراجح ما عليه الجمهور أنها واجبة على كل مسلم ومن تلزمه نفقته بقرابة أو زوجية، أو رِقٍ.
هل يشترط لصدقة الفطر نصابًا؟
الراجح أنها لا يشترط فيها نصاب الحديث.. (على العبد والحر) يشمل الغني والفقير الذي لا يملك نصابًا، وكل ما يشترط فيها هو:
أ- الإسلام.
ب- أن يملك قوت يوم العيد وليلته له ولمن تلزمه نفقته.
وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله- في نيل الأوطار جـ4 ص186 (وهذا هو الحق، لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيًّا ولا فقيرًا، ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكًا له، ولاسيما والعلة التي شُرِعَتْ لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهر من اللغو والرفث واعتبار كونه واجدًا لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه، لأن المقصود من شرع الفطر إغناء الفقراء في ذلك اليوم.... فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أُمرنا بإغنائه في ذلك اليوم لا من المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره).
وقال ابن قدامة (إن صدقة الفطر حق مالي لا يزيد بزيادة المال فلا يُعتبر وجوب النصاب فهيا كالكفارة).
متى تجب صدقة الفطر؟
اختلف العلماء في تحديد وقت وجوبها على قولين:
الأول: أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، لأنها وجبت طهرة للصائم، والصوم ينتهي بالغروب فتجب به الزكاة، وهو قول الإمام الشافعي، وأحمد، والثوري، ورواية لمالك (رحمهم الله جميعًا).
الثاني: أنها تجب بطلوع الفجر من يوم العيد، لأنها قربة تتعلق بيوم العيد، وهو قول الإمام أبو حنيفة وأصحابه، ومالك في رواية أخرى.
وثمرة الخلاف تظهر فيمن وُلِدَ له مولود بعد مغيب الشمس وقبل فجر العيد هل تجب عليه صدقة الفطر أم لا؟ وكذلك لو مات مسلم في هذا الوقت. فعند أصحاب القول الأول تجب عليهما صدقة الفطر، وعند أصحاب القول الثاني لا تجب.
وقت إخراجها:
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) يريد صلاة العيد.
- ويرى جمهور الفقهاء أنها تخرج قبل صلاة العيد وتأخيرها عن الصلاة مكروه، لأن المقصود الأول منها إغناء الفقير عن السؤال والطلب في هذا اليوم، فمتى أخرها فإن جزءًا من اليوم مضى دون أن يتحقق هذا الإغناء. (المغنى جـ3 ص67).
- ويرى الإمام الشافعي- رحمه الله- أن التقييد بـ(قبل الصلاة) على الاستحباب وليس على الوجوب، بقرينة قوله صلى الله عليه وسلم "أغنوهم في هذا اليوم" فكلمة اليوم تصدق على جميع نهار يوم العيد. (فتح الباري جـ3 ص375).
- وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله- في نيل الأوطار جـ4 ص195 إن إخراجها قبل صلاة العيد واجب لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- (.... فمن أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) أي ليس لها الثواب الكامل الخاص لزكاة الفطر.
- أما تأخيرها عن يوم العيد فحرامٌ بالاتفاق، ويلزمه إخراجها مع إثم خروج وقتها، قال في المغني: فإن أخرها عن يوم العيد أثِم ولزمه القضاء. (جـ3 ص67).
- ويجوز تعجيل إخراج صدقة الفطر وذلك لما رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنه- قال: (كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) وقول للحنابلة بجواز تعجيلها من بعد نصف الشهر.
وقال الشافعي بجواز إخراجها من أول رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب.
وقال أبو حنيفة يجوز تعجيلها من أول الحول أي تدفع مقدمًا لأنها أشبهت زكاة المال من جانب أنها حق مالي، ولا ريب أن القول بإخراجها من أول الشهر، أو من منتصفه أيسر على الناس وأقوى لهم في الإتيان بما يحتاجونه، وأيضًا فيه سعة على المعطى، أما حصرها بوقت ما قبل صلاة العيد ففيه مشقة على المعطي خاصة مع اتساع البلدان وتباعد المسافات في البلد الواحد، فلا داعي للتعنت لأن وقت ما قبل الصلاة ليس مقصودًا بذاته وإنما إغناء الفقير هو مقصود الشارع.
مصارف صدقة الفطر:
رأى الجمهور بجواز قسمتها على الأصناف الثمانية التي تخرج فيها الزكاة، وأجازوا تخصيصها للفقراء.
والمشهور من مذهب الشافعي أن مصارف صدقة الفطر هي نفس المصارف الثمانية للزكاة عمومًا.
وعند المالكية ورأى للإمام أحمد بوجوب تخصيصها للفقراء والمساكين، ولحديث "إنها طُعمة للمساكين"، ولحديث "أغنوهم في هذا اليوم".
والراجح كما ذكر العلامة القرضاوي في كتابه (فقه الزكاة) أن المقصود الأهم من صدقة الفطر إغناء الفقير في ذلك اليوم خاصة، فيجب تقديم الفقراء والمساكين على غيرهم إن وجدوا إلا لحاجة أو مصلحة إسلامية معتبرة فلا يمنع أن تصرف في المصارف الأخرى.
من لا تصرف لهم صدقة الفطر:
لا يجوز دفعها إلى:
1- كافر معادٍ الإسلام.
2- ولا مرتد.
3- ولا لفاسق يتحدى المسلمين بفسقه.
4- ولا غني بماله أو كسبه.
5- ولا متبطل قادر على الكسب ويجد العمل ولا يعمل.
6- ولا لمن تلزمه نفقته من والد وولد وزوجة.
الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر:
روى الجماعة عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر في رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير).
وأخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب).
وفي رواية للإمام البخاري (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية- رضي الله عنه- المدينة فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك)؛ وفي زيادة لم تُذكر عند البخاري، قال أبو سعيد: (فلا أزال أخرجه عما كنت أخرجه).
وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود: (كان ابن عمر يعطي التمر إلا عامًا واحدًا أعوز التمر فأعطى الشعير).
وللدار قطني عن أبي سعيد قال: (ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعًا من دقيق، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من سُلت، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط).
ولكن هل الأصناف المذكورة في هذه الأحاديث عبادة محضة مقصودة بذاتها، فلا يجوز العدول عنها إلى أصناف غيرها؟
لو نظرنا إلى المسألة في ضوء فقه المقاصد لرأينا أن هذه الأصناف ليست مقصودة بذاتها، فها هو سيدنا أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- يخرج أصنافًا لم تذكر في حديث ابن عمر الذي نص على التمر والشعير، فلو كانت هذه الأصناف عبادة محضة لوجبت بذاتها ولم يعد هناك مجال للاجتهاد فيها، وهذا لم يقل به أحد بل اجتهد الصحابة في إخراج أصناف لم تذكر في الحديث، وكذلك اجتهد أمير المؤمنين معاوية- رضي الله عنه- في حضور الصحابة، وجعل نصف صاع من قمح الشام يعدل صاعًا من التمر أو الشعير، وللأئمة تفصيل وأقوال نذكر منها:
* قال الشافعية والمالكية لا يشترط صنف بعينه بل يخرج أي قوت كان بشرط أن يكون غالب قوت البلد، أو غالب قوت المزكي (كتاب العدة شرح العمدة).
* فالأصناف الموجودة بالحديث كانت غالب أقواتهم فذكرت لذلك وليس من باب التحديد والتخصيص، ولا معنى ذلك النهي عن أصناف غيرها.
* وقد ذكر الإمام ابن القيم كلامًا يدل على فهم عالٍ بواقع الناس وبمقصود الشرع وذلك في كتابه (أعلام الموقعين جـ3 ص13، 12 باب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان،
صل صدقة الفطر حسب قوت المخرجين، المثال الرابع) فيقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كم قوتهم الذرة، أو الأرز، أو التين، أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك، أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا من كان) هذا قول جمهور العلماء وهو الصواب الذي لا يقال بغيره إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث ما دام أنفع للفقير، فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض للسؤال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة"، وإنما نص على الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة.. فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم بل يشرع لهم أن يواسوا المساكين من أطعمتهم فهذا محتمل يسوغ القول به. والله أعلم (أ.هـ)
انظر- فقهك الله- إلى هذا الفهم الراقي للإمام ابن القيم، فما أحوجنا إليه في زماننا فلا تتحجر عقولنا ونقتحم النصوص بلا فقه ولا فهم لمقاصدها فنشق على أنفسنا وعلى الناس، من فقه الإمام ابن القيم نعى أن الأصناف المذكورة في النصوص ليست لذاتها بل يجوز العدول عنها إلى أصناف أخرى، فإذا كان طعام المسلمين الأولين الشعير والتمر غالبًا، والبُر والزبيب أحيانًا، والأقط نادرًا، فإن الأمر قد تغير، والبيئة قد تغيرت، وعرف الناس أطعمة لم تكن معهودة عندهم كالأرز مثلاً، وترك الناس ادخار البر وطحنه وخبزه، وأصبح الشعير لا يستعمل إلا في إطعام الحيوانات أو في التداوى، وأما التمر والزبيب فلم يعد طعامًا بحال بل هما كالفاكهة، وأن الناس في زماننا يفضلون اللحم والأرز على هذه الأصناف.
إذًا نخرج من هنا بفائدة أن ذكر هذه الأصناف من الأمور الحياتية العادية وليست تعبدية والنظر فيها إلى ما يعتاده الناس والتمسك بإخراج المنصوص عليه فقط تعنت قد يفوت حكمة التشريع كما ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله.
مقدار صدقة الفطر:
حديث ابن عمر يحدد المقدار بصاع من تمر أو صاع من شعير وفعل سيدنا معاوية بحضور الصحابة نصف صاع من قمح، أي أن المخرج عليه إخراج ما يقرب من 2.5: 3 كجم من القمح أو الأرز وهو غالب قوت الناس في زماننا أو قيمتها مالاً.
ومن حكمة الشارع في صدقة الفطر، تقليل مقدار الواجب وتيسير إخراجه مما يسهل على الناس حتى يشترك أكبر عدد ممكن من الأمة في هذه المساهمة الكريمة، فيعم السرور والترابط كل أبناء المجتمع المسلم.
جواز إخراج القيمة والخلاف فيها:
بعضنا عندما نتحدث في هذا الأمر ونناقشه نجعله وكأنه قضية حياة أو موت، أو سنة وبدعة، فنجد صخبًا مدويًا وخلافًا قد لا يصحبه أدب، وتعصبًا مقيتًا وتشكيكًا في النيات وعبادات الناس، وقبل الدخول في أقوال العلماء والأئمة الأجلاء علينا أن نعي قضية أساسية في الفقه الإسلامي وهي: أن كل إمام كن يصدر أحكامًا فقهية وهو حريص كل الحرص على أن تقع في مرضاة الله وقبوله، وما عُرِفَ عن واحد منهم أنه دعا الناس لأتباعه والالتزام برأيه بل كان يبدي رأيه وهو يرجو أن يكون الصواب بجانبه ولا يجزم أن الصواب معه وكلهم- رضوان الله عليهم- متفقون على قاعدة واحدة (قولنا صحيح يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، فإجلالهم واجب علينا، لذا نجد أن من جلافة الطبع وبلادة الحس أن يقول قائل: لو أن الإمام فلان الذي أجاز القيمة- وقف في صف ووقف النبي- صلى الله عليه وسلم- في صف فمع من تقف؟ ما هذا السخف، وكيف يتأتي لعقولهم العليلة أن تتخيل أن هناك صفوفًا غير صف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وكل الأمة في صف خلف النبي المصطفى وكل الأئمة من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغترف.
الأمر الثاني: أننا رأينا في صدقة الفطر كلها من الفرعيات التي جاز للعلماء الاختلاف في مفرداتها، فلماذا قبلنا أن يكون هناك خلاف في حكمها وجوبًا وعدمًا، وخلافًا على من تجب، وخلافًا في وقت إخراجها، وخلافًا في الأصناف المخرجة عملاً بمقاصد الشرع، ونجعل هذا الخلاف بين الأرجح والراجح والمرجوح، ولا نستسيغ الخلاف في إخراج عينها أو قيمتها، ويجعله خلاف حق وضلال أو سنة وبدعة، والأمر على غير هذا، فإن من يتمسك بالنصوص فأوجب إخراجها حبوبًا أجاز إخراج الأرز أو الدقيق مثلاً وهي أنواع غير منصوص عليها، فإذا قلت له هذه أصناف لم ترد بها النصوص قال إن العلماء اجتهدوا في ذلك، فما دمنا قبلنا اجتهاد العلماء في مسألة فلنقبل اجتهاداتهم في أخرى.
وندخل إلى موطن المسألة بذكر أقوال الإمام ابن القيم- رحمه الله- في بيان حكمة مشروعيتها، لندرك أن الخلاف يسير والأمر هين (.... وإذا تأمل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده لا يضر المُخْرِج فقده، وينفع الفقير أخذه، ونراه قد راعى فيه حال المخرج وجانب الرعاية ونفع الآخذ به، فلابد للزكاة من معطى ومن آخذ فإذا كلفنا أحدهما فوق طاقته انتفت السهولة واليسر عن الشريعة، ولذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين: أحدهما: حاجة الآخذ، والثاني: نفعه. (أعلام الموقعين جـ2 ص92).
إذا لو نظرنا إلى حكمة الشارع في صدقة الفطر لرأيناها متجلية لتحقيق أمرين:
الأول: إغناء الفقير عن المسألة في يوم العيد وليس إشغاله في بيع وشراء، وبحث عن تجار الحبوب والأسعار.
الثاني: تطهير صيام الصائم وجبر للنواقص المخلة.
ومما تقدم ندرك أن صدقة الفطر لا تجدي نفعًا ولا تؤدي غايتها المشروعة إلا إذا كانت سهلة وميسرة يحصل فيها الرضا والقبول لكلا الطرفين، فيدفعها الصائم بلا مشقة وبنفس راضية، ويأخذها الفقير لنفعه بنفس طيبة، فلا نشق على المعطي بشراء الحبوب لإعطائها للفقير الذي يقوم بدوره ببيعها لاستجلاب الطعام أو الثياب أو غير ذلك مما هو في أمس الحاجة إليه، فإغناء الفقير الذي هو من حكمة التشريع قد يتحقق بالحبوب وقد يتحقق بالنقود، بل قد تمكنه النقود من شراء ما يحتاجه وهو أعلم بحاجته.
أمرٌ آخر وهو أن الأصناف الموجودة بالنصوص (كالتمر، والشعير، والزبيب، وغيرها) كانت نقودًا سلعية أو سلعًا نقدية بمعنى أنه سلعة يستخدمها أفراد المجتمع وقتها لقياس قيمة السلع الأخرى وتبادلها، وكانت النقود الذهبية والفضية عزيزة نادرة فكان المجتمع يتبايع بتبادل السلع وكانت تعطى أجرًا للعامل كما ثبت أن سيدنا عليًّا- رضي الله عنه- كان يعمل على حفنات من التمر في اليوم، كما روى الإمام البيهقي في سننه أن عمرو بن جريش قال لعبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- (إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفنبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين).
وقول الإمام الشافعي: (إن الحنطة ثمن بالحجاز، والذرة ثمن باليمن).
وهذا دليل على أن عرف الناس في هذا الزمان التبايع والتبادل بالإبل والبقر والغنم والحنطة والذرة، وقد كانت هذه السلع يتبادل به الناس إلى وقت قريب في الريف.
ولا شك أن النقود كانت عزيزة ونادرة عند العرب في ذلك الحين، وكانت تأتيهم من الفرس والروم ولم تكن لهم عملة يتعاملون بها، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس، وأنفع للفقراء، فراعى النبي- صلى الله عليه وسلم- ظروف البيئة والزمن، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة.
إن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، فلو حدد النبي- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر بالنقود لاختلف الناس في تحديدها اختلافًا بينًا، فكان لا بد من ضابط لا يختلف عليه الناس اختلافًا بينًا، فكان الصاع من الطعام فإنه يشبع حاجة بشرية محددة ومن السهل تقويمها مالاً أيضًا.
وواقعنا الحالي يقول إن غالب من يُخرجون الحبوب ليس عندهم حبوب إنما يشترونها ويعطونها للفقير الذي يبيعها وهو زاهد فيها بثمن بخس، فالمنتفع في هذه الحالة هو التاجر وليس الفقير، فهل هذا هو مقصد الشرع من الزكاة؟.
الناظر إلى واقع الناس اليوم يجد أن الفقير قد لا يحتاج الحبوب ولكنه يحتاج إلى ثيابٍ لأولاده أو أحذية لهم، أو دواء له أو لمن يعول أو يحتاج المال لدفع مصاريف تعليم أبنائه، أو غير ذلك مما يقدره هو أحسن من تقدير غيره الذي لم يطلع على أحواله.
- الذي يمنع إعطاء القيمة نسأله ما هو حكم الفقير الذي أخذ الحبوب فباعها وأخذ قيمتها؟ أليس بمنطقهم منعه من بيع الحبوب أيضًا، بمعنى أوضح إن قطبي الزكاة هما: (أ-المعطي، ب-الآخذ) فالمعطي أعطى بدلاً من الحبوب نقودًا، والآخذ حول الحبوب ببيعها إلى نقود، فلو منعنا المعطي من إعطاء النقود وألزمناه بإخراج الحبوب، أفلا يكون علينا أيضًا إلزام الآخذ بالانتفاع بالحبوب وعدم بيعها وإلا فلماذا التفريق بين المتماثلين في العمل الواحد.
- إن الصحابة- رضوان الله عليهم- عدلوا عن الصاع في القمح إلى نصف الصاع لما رأوا أن نصف الصاع منه يعدل (أي قيمته) صاعًا من تمر، فالحديث السابق ذكره عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: (كنا نُخًرِجُ زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من تمر، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية بالمدينة فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك) "رواه الجماعة".
- وانظر إلى قول سيدنا أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- (فأخذ الناس بذلك) والناس هنا هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
- أيضًا ما رواه البخاري أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، قال عبد الله: فجعل الناس عدله مدين من حنطة) والناس هنا هم أيضًا الصحابة الذين لا يمكن لهم أن يتفقوا على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فنظروا إلى أن قيمة مدين من القمح تساوي قيمة صاعٍ من تمر أو شعير فلو لم يكن النظر إلى القيمة جائز ما فعلها الصحابة، ولأنكر بعضهم على بعض، ويقول الحافظ ابن حجر- في فتح الباري- إن ذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله وابن عباس، وابن الزبير، وأسماء بنت أبي بكر- رضوان الله عليهم- (أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من القمح)، فقول عبد الله بن عمر (فجعل الناس عدله مدين من حنطة) أن جمهور الصحابة رأوا ذلك.
- وقال ابن عبد المنذر: إن فعل الصحابة النظر إلى قيمة الصاع لا إلى الحجم والكيل وهو استدلال واضح كما نقل ذلك ابن حجر في الفتح.
- وقال بجواز القيمة بعد الصحابة الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- وهو من هو في علمه وفقهه، وقال بجواز القيمة في رواية له الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- حيث جاء في كتاب (الإنصاف في الفقه الحنبلي ص 60 جـ3) (وعند الإمام أحمد رواية بجواز إخراج القيمة مطلقًا، أو عند الحاجة).
- وأجاز إخراج القيمة الإمام البخاري حيث قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسالة الحنفية، مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل.
- وفي مصنف ابن أبي شيبة جـ4 ص37، 38 (عن عطاء: أنه كان يعطي في صدقة الفطر وَرِقًا (دراهم فضية) وأن الحسن البصري قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر)، وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم (يعني الصحابة) وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام. وأجاز عمر بن عبد العزيز القيمة وكان يأخذها من كل إنسان نصف درهم.
- وأجاز القيمة أيضًا الثورة، وأشهب، والقاسم من المالكية، وقول للإمام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى (.. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به.. إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك) "الفتاوى ج25 ص82،83".
وممن أجاز إخراج القيمة من علماء العصر الحديث:
- الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في كتابه الفتاوى ص156.
- والعلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر الذي قال: (.. وكيف نكلف المسلم في هذا الزمان حيث المجتمعات الكبيرة والمعقدة والتي تتمتع بكثافة سكانية عالية بإخراج الحبوب التي لم يعد من الميسور إحضارها، ولا من النافع للفقير إعطاؤها؟ لأنه لم يعد يطحن ولا يعجن ولا يخبز، وفرق بين من يكون عنده الطعام ويضن به على الفقير، ومن ليس عنده إلا النقود كأهل المدن فهو يسوي الفقراء بنفسه، والزكاة إنما جعلت لإغناء الفقير عن الطواف في يوم العيد، والأغنياء يتمتعون بمالهم وعيالهم، ولينظر امرؤٌ لنفسه: هل يلي أنه يغني الفقير عن الطواف إذا أعطاه صاع تمر أو صاع شعير، في بلد مثل القاهرة في مثل هذه الأيام؟! وماذا يفعل بهما الفقير إلا أن يطوف ليجد من يشتريهما ببخس من القيمة ليبتاع لنفسه أو لأولاده ما يتقوتون به؟! (أ.هـ هامش المحلي جـ6 ص131، 132).
- والشيخ صالح العلي- رحمه الله- رئيس قسم الفقه في كلية الشريعة بجامعة محمد بن سعود بالسعودية حيث قال بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر في البلاد الإسلامية إذا كان ذلك أنفع للفقير، والحاجة في زماننا تقتضي أن نفسح المجال لمن يريد إخراج القيمة ولا نحجر عليه (قضايا فقهية معاصرة من مطبوعات كلية الشريعة بالرياض).
- والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (فقه الزكاة، فتاوى معاصرة).
- والشيخ ناصر الألباني حينما سئل بالسؤال الآتي: هل يجوز إخراج قيمة صدقة الفطر بدلاً من عينها؟
فأجاب- رحمه الله- قائلاً: (هذا لا شك يجاب عنه حسب الظروف والبيئة، فهناك بينات متأثرة بالمدنية والحضارة، والناس لا يطحنون بأيديهم، فإذا أعطى المتصدق أحد الفقراء قمحًا أو شعيرًا فإنه لا يحتاجه، وسيلجأ إلى بيعه، ثم بعد ذلك يأخذ المال ويشتري ما يحتاجه من طعام وشراب يوم العيد، فحينذاك نقول إذا تمسكت بإخراج الأعيان التي ورد النص بزكاة الفطر منها نكون قد آذينا الفقير وسببنا له الضرر مرتين، مرة حين باع هذه الأنواع فهو سيخسر فيها، ثم خسر إذا أراد أن يشتري شيئًا آخر، المهم أنه يتأذى وهذه مسألة بالنسبة لزكاة الفطر وليست مسألة من العبادات التي لا يدري الحكمة منها ولا يُعرف وجه المصلحة التي رمى الشارع إليها، فنقول هكذا ورد الشرع، فليس علينا إلا التسليم كسائر العبادات، بينما هنا أمور مفهومة الحكمة والمعنى... فلا شك أن الشارع أراد بها مصلحة الفقير، ومصلحة الفقير هنا في مثل هذه البيئات تتضرر إذا تمسكت بإخراج أعيان، والصواب ما عليه الأحناف من جواز إخراج القيمة في مثل هذه البيئة. (كتاب الحاوي في فتاوى الألباني جـ1 ص284).
- والشيخ بخاري أحمد عبده- من جمعية أنصار السنة حيث قال بجواز إخراج القيمة وأن المقصود من شرع الزكاة إغناء الفقير يوم العيد، وهذا يتحقق بالطعام ويتحقق بالقيمة، بل وتحققه بالقيمة أفضل لأنها تمكنه من شراء ما يحتاجه من طعام ولباس ونحوهما، وينبغي أن تذكر أن التمر والزبيب والأقط وغير ذلك من الأصناف المنصوص عليها كان كل منها- يومئذ- قوتًا يتناوله الرجل حتى يشبع، وربما ظل على ذلك أيامًا لا يغيره، فهل هذا الأصناف اليوم كذلك؟ وهل نصيب روح الإسلام ونغني فقراءنا في المدن إذا أعطيناهم أقطًا وشعيرًا وبرًا؟ (مقال منشور بمجلة التوحيد التابعة لجمعية أنصار السنة عدد رمضان سنة 1406هـ ص13).
- والشيخ فؤاد مخيمر- رحمه الله- رئيس الجمعية الشرعية وأحد علماء الأزهر الشريف حيث يقول في كتابه قبسات من المنهج التربوي في السنة جـ7 ص305 (إن المتأمل في أحوال الناس قبل العيد بيومين وليلة العيد، يكاد يجزم أن القيمة في عصرنا الحاضر أنفع للفقير من الأرز والقمح والزبيب وغيرها، ذلك لأن المزكي يشتري قدر زكاته من التاجر، ومن حوله الفقراء يوزعها عليهم فيأخذ الفقير زكاته، وأمام المزكي أو بعد مغادرته بقليل يبيعها لنفس التاجر بنصف قيمتها، أو بثلثي القيمة، لأنه يحتاج إلى القيمة أكثر من احتياجه إلى القوت لكثرته في بيته من المتصدقين فيخسر الفقير، ويزداد التاجر غنىًّ فيكون هذا بُعدًا عن مقصود الشارع، ومن ثم أقول: إن على المتصدق أن ينظر إلى حاجة الفقير فما يجده أنفع له ولعياله يعطيه إياه قوتًا كان أو قيمة).
- والشيخ منير جمعة عضو هيئة علماء الجمعية الشرعية حيث يقول: (.. القول بجواز القيمة في زكاة الفطر يتفق مع فقه المقاصد من جهة أن الفقهاء جوزوا إخراج الزكاة من غالب قوت البلد، وإن لم يكن من المنصوص عليه رعاية لحال الفقراء، وكذلك لو جوزنا إخراج القيمة نكون قد نظرنا إلى المقاصد الكلية لا إلى النصوص الجزئية وفعلنا ما فعله الفقهاء ولكن بأسلوب عصرنا.. فلا ينبغي أن نتقيد بفقه مرحلة زمنية ولت، والله- عز وجل- يريد بنا جميعًا- فقراء وأغنياء- اليسر. ثم يقول: أهما أولى؟ إن كثيرين ممن يخرجون الحبوب لا يشترون هذه الحبوب بأنفسهم، وإنما يعطون قيمتها لبعض إدارات المساجد لتشتريها لهم وتوزعها على الفقراء (وكيل عنهم)، وأقول: إذا كانوا يوكلون غيرهم في شراء الطعام، أفلا يوكلون الفقير نفسه في شراء (الطعام الذي يحتاج إليه، وهذا أولى من إعطائها لأناس لا يعرفون عن احتياجات الفقير الفعلية شيئًا؟) (بحث جيد ومختصر منشور بمجلة التبيان عدد رمضان سنة 1427هـ ص48، 49).
- واللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة حيث قالت: (.. المقصود بصدقة الفطر إغناء المحاويج عن السؤال في يوم العيد، والإغناء كما يتحقق بالطعام يتحقق بغيره، بل قد تكون القيمة أفضل لأنها أدفع لحاجة الفقير وأكثر نفعاً له، والعبرة بما هو أنفع للفقير وأدفع لحاجته، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه، ونظرًا لتحقق الحاجة بالنقود بما لا تتحقق به الحاجة من غيرها، ولأن حاجة الفقراء ليست وقفًا على الطعام فقد يكونون أمس حاجة إلى الدواء أو الكساء منهم إلى الطعام والشراب، وهو الذي يظهر لنا عند ظهور الحاجة إلى القيمة أو رجحان المصلحة فيها. والله أعلم. (الفتوى رقم 655).
بعد أن عرضنا أقوال علماؤنا في هذه الجزئية، أردنا أن ندرك أن التمسك بحرفية السنة أحيانًا لا يكون تنفيذًا لروح السنة ومقصودها، بل قد يكون مضادًّا لها، وإن كان ظاهره التمسك بها، وأنهم عنوا بجسم السنة وأهملوا روحها، وأنه لا داعي على الإطلاق للتشنيع على من قال بالقيمة، وإظهار الأمر- إما جهلاً أو بقصد- على أنه تفرد من الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- وشذوذ في قوله مع العلم أن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان لو تفرد برأي لكان جديرًا بالنظر والاعتبار- وإن كان مرجوحًا- وذلك لجلالته في العلم ورسوخه في الفقه حتى قال عنه الإمام الشافعي (الناس عيال على فقه أبي حنيفة) فكان أبو حنيفة للناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، ومع ذلك لم يتفرد الإمام أبي حنيفة بهذا الرأي بل سبقه صحابة وتابعون ولحقه علماء محدثون رضي الله عنهم أجمعين.
وإن الأصل في المسألة النظر إلى مقصود النص ورعاية لأحوال الناس وأزمانهم، وبيئاتهم والتيسير عليهم ورفع المشقة عنهم في إطار الشرع الحنيف.
سائلاً المولى- عز وجل- أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يجعلنا صفًّا واحدًا للدفاع عن ثوابت هذا الدين أمام الهجمة الصليبية الأمريكية المتحالفة مع الصهيونية اليهودية، ورحم الله الإمام الغزالي عندما قال: (إن من أعظم الشرور والمنكرات عدم ترتيب الأولويات).
وما نختلف فيه من فروع فليسعنا الأمر في ظل قاعدة المنار التي تكتب بماء الذهب (نتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه).
وتعالوا نتعاون فيما اتفقنا عليه ونتحاور فيما اختلفنا فيه في ظل الحب في الله والأخوة والإسلامية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: من الآية 40).
أضف تعليقك