• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..

فحتى يمنُّ الله علينا بالقبول، ويُؤتي نفوسنا تقواها تلك هي الثمرة المُتوخاه من وراء الصوم لقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"[1]والتي كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يدعو ربه أن يُؤتيه إيَّاها فيقول "اللهم آت نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكَّاها أنت وليُّها ومولاها" فلا بدَّ لنا أن نعقل ونَعِيَ أن الهدف من الصوم، إنما هو التهذيب للنفس والتأديب للطبع وذلك بِصيام الجوارح وكفها عن المحارم. وإمساك سائر الأعضاء عن المحرَّمات أبدًا انطلاقًا وامتدادًا لهذا الإمساك المؤقت للبطن والفرج في نهار الصوم  كما قال تعالي "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثًمَّ أتموا الصيام إلى الليل ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" [2].

 

 ومن هنا فإن لكل جارحة صومها الخاص بها ولكل عضو إمساكه ونعنى بالأعضاء هنا "اللسان واليد والعين والرجل والبطن والفرج والقلب" فالمسلم إن أمسك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أو قُل أَمَسَك عن شهوتي البطن والفرج ولكنه أطلق للسانه ولسائر جوارحه العنان فوقع في المُحرَّمات وانتهك الحرمات فإنه يُحبط أجر صومه ويُبطل عمله قال تعالي "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تُبطلوا أعمالكم"[3]

 

 وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش, ورب قائم حظه من قيامه السهر"[4].

 

إذ ينبغي للمسلم الصائم في حركته اليومية وحياته العملية، الكثير من التحفظ والتوقي والحذر حتى لا يبوء من صيامه بالجوع والعطش ومن قيامه بالسهر والتعب إذ الأصل في الصوم الإمساك عن كل ما يفسد الصوم.

 

( عن طليق بن قيس قال: قال أبو ذر: إذا صمت فتحفظ ما استطعت وكان طليق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاَّ لصلاة.)[5] هذا التحفظ يُكسب المرء الوقار والزينة والاتزان وتتجمع مخايل الشخصية المسلمة الحقة، ولا يستويان أبدا الصائم المستصحب لمعية الله واللاهي اللاعب. كما لا يستوي أبدا من أمضى ليله ساهرا لمشاهدة التمثيليات والأفلام، وآخر أسهر القرآن الكريم ليله،"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"[6]وعن إجمال هذا التحفظ، ليقع القبول للصوم ؛ قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء[7].

 

وهاك ما ينبغي أن تكون عليه في يومك وليلك حتى يقع لك القبول وتتأتى لك التقوى تلك الثمرة المرجوة من وراء الصوم ونبدأ بالقلب لأهميته بين سائر الجوارح ففي الصحيح عن النّعمان بن بَشيرٍ- رضي الله عنهما- يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الحَلالُ بَيّنٌ, وَالحَرامُ بَيّنٌ, وَبَيْنَهما مُشَبّهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ منَ الناسِ. فمنِ اتّقىَ المُشَبّهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِه, ومَنْ وَقَعَ في الشّبُهاتِ كراعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمىَ يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه. ألا وإِنّ لِكلّ مَلكٍ حِمى, ألا إِنّ حِمَى اللهِ مَحارِمُه. ألا وإِنّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كلّه, وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كله, أَلا وهِيَ الْقَلْبُ"[8].

 

وسبيل استقامة الإنسان استقامة قلبه أوَّلًا فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يَسْتَقِيمَ إيمانُ عَبْدٍ حَتّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلاَ يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, ولا يَدْخُلُ رَجُلٌ الجنة, لا يأمَنْ جَارُهُ بوَائِقَه"[9].

 

وهذه المُضغة بمثابة الملك أو الحاكم وسائر الأعضاء له جنود يأتمرون بأمره  كما قيل

إذا حلَّت الهداية قلبًا نشـــطت في العبادة الأعضاء.ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل وكما أن القلب مصدر الحياة ماديًَّا بسبب ضَخِّه الدم لسائر الأعضاء وبه تكون الحياة المادية؛ فكذلك به تكون حياة الروح وفاعلية الإيمان في حركة المسلم اليومية. وكثيرة هي الآثام الباطنة التي تقع بهذه المضغة وقد أمرنا الله تعالي بِترك كل إثم ظاهرًا كان أم باطنًا  قال تعالي " وذروا ظاهر الإثم وباطنه "[10]

 

ومن هذه الآثام التي يجب أن نغسل قلوبنا منها مايلي:

أولاً: صوم القلب عن

 

1.الكبر: وهو بطر الحق وغمط الناس والاستخفاف بهم. في الحديث الصحيح ما يُشير إلى حُرمة الكبر وكونه سببًا في الحرمان من دخول الجنة في الصحيح عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ, عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قَالَ رَجُلٌ: إِنّ الرّجُلَ يُحِبّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا, وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: "إِنّ الله جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقّ وَغَمْطُ النّاسِ"[11].

 

 في الحديث ما يشير إلى ما وضعه الرسول - صلي الله عليه وآله وسلم - من علاج لبوادر الكبر وبواعثه في النفس ومنها أنه - صلي الله عليه وآله وسلم - وجد أُناسًا يسيرون خلفه فيقف ويُقدِّم الناس أمامه حتى لا يسيرون خلفه فتكون من ذا فتنة له وهو المعصوم فما بالك بمن ليس معصومًا.عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه - قَالَ: مَرّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم, فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ. وَكَانَ النّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ. فَلَمّا سَمِعَ صَوْتَ النّعَالِ وقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. فَجَلَسَ حَتّى قَدّمَهُمْ أَمَامَهُ, لِئَلاّ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ"[12]

 

2- الأمن من مكر الله تعالي:  يجب أن تصوم قلوبنا عن الأمن من مكر الله عـزَّ وجلَّ لأننا لا ندرى بما يُختم لنا فلا يَغرُّنا ما نحن عليه الآن من القيام بأنماط من الطاعة وألوان من العبادة لأنّا لا ندري هل تُقُبل هذا العمل منا أم لا ؟ " إنما يتقبل الله من المتقين "[13]. ومن ذا الذي يستطيع أن يقطع لنفسه بالتقوى مع قول الله Y "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"[14]. فالعبرة بالخاتمة كما في الحديث " إنما الأعمال بالخواتيم "  هذا هو أبو بكر الصدِّيق على فضله وشهادة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم له مما يطول الحديث لو استعرضناه هنا أقول مع هذا كلِّه يقول لو كانت إحدى قدميَّ في الجنة ما أمنت مكر الله عـزَّ وجلَّ "فلا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون "[15]

 

3- الرياء: وهو قصد الوجاهة عند الناس والشهرة بأعمال مشروعة قال تعالي " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يُراؤون ويمنعون الماعون"[16]. وفي الحديث مايشير إلى خطورة الرياء على صاحبه يوم العرض على الله عـزَّ وجلَّ لقد اعتبره رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم شركًا تخوَّفه على أُمته ويوم القيامة لا أجر لهؤلاء المرائين عند الله عـزَّ وجلَّ حيث يُقال لهم اذهبوا إلى من كنتم تقصدونهم بأعمالكم فعند ذلك تكون الحسرة والندامة عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً "[17].

 

4- الغِلّ: " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"[18]. وقد جعل الله تعالي الناس أصنافًا ثلاثة الأول: المهاجرون الثاني: الأنصار وقد فاتنا الصنفان فلم يبق إلاَّ الثالث: وهم: الذين يدعون لمن سبقوهم بالإيمان ويسألونه Uأن يمن عليهم بسلامة قلوبهم من الغل لإخوانهم هؤلاء ومن لم يسلم قلبه من الغل لهؤلاء فقد خرج من الأصناف الثلاثة ولهذا قلنا ينبغي أن تصوم قلوبنا عن هذه الرذيلة. وأفضل الناس من صفا قلبه من هذه الآفات كما جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب, صدوق اللسان". قالوا: صدوق اللسان, نعرفه. فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي. لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد"[19].

 

5-الحسد: وهو تمنى زوال النعمة عن الغير وأشدُّه أن يتمنى الحاسد أن تزول النعمة عن الغير وحصولها له.والحسد من الكبائر التي تُؤدى إلى التقاطع والتدابر بين أبناء المجتمع الواحد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَن رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيّاكُمْ وَالظّنّ. فَإِنّ الظّنّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلاَ تَحَسّسُوا, وَلاَ تَجَسّسُوا, وَلاَ تَنَافَسُوا, وَلاَ تَحَاسَدُوا, وَلاَ تَبَاغَضُوا, وَلاَ تَدَابَرُوا, وَكُونُوا, عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً"[20].

6- الإعجاب بالنفس أو بالرأي: عن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيّلَ وَاخْتَالَ, وَنَسِيَ الكَبِيرَ المتَعَالَ. وَبِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ تَجَبّرَ وَاعْتَدَى, وَنَسِيَ الْجَبّارَ الأَعْلَى. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ سَهَى وَلَهَى, وَنَسِيَ المَقَابِرَ وَالْبِلَى. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى, وَنَسِيَ المُبْتَدأَ وَالمُنْتَهَى. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ يَختِلُ الدّنْيَا بالدّينِ. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدّينَ بالشّبُهَاتِ. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ هوَى يُضِلّهُ. بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ رُغَبٌ يُذِلّهُ"[21].

 

7- محبَّة ما لايُحبه الله تعالي أو المحبة لغير الله تعالي "إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون"[22]

 

 والحب والكره وثيق الصلة بالإيمان وعظيم الخطر على مستقبل الإنسان بل على آخرته فالمرء مع من أحب كما في الصحيح[23].وخلاصة القول لا بد من التنبه لهذه المضغة فهي صغيرة الحجم عظيمة الشأن وبها وباللسان يكون الإنسان كما قيل المرء بأصغريه قلبه ولسانه ونكتفي بما طرحناه هنا من آفات هذه المضغة وفيما ذكرنا دليل إلى مالم نذكر من آفاتها ولا بُدَّ لنا مِنْ أن تصوم هذه المضغة عن آفاتها الموبقة حتى تصوم وتستقيم لنا سائر الجوارح.

 

ثانيًا: صوم اللسان:

 والارتباط بين اللسان والقلب وثيق، والعلاقة بينهما غير مُنْفكَّة ففي الحديث "وَلاَ يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, " وفي الأمثال (ما فيك يظهر على فيك) وفي الشعر

 

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما         جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً

 

لهذا كان حديثنا عن صوم اللسان بعد صوم القلب هذه الجارحة ينبغي أن تصوم عن ما يلي:

1- الكذب: وهو قول غير الحقيقة والواقع. ولا يجتمع الكذب والإيمان في قلب أبدًا: قال: أبو بكر - رضي الله عنه - يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان "[24]. وفي الحديث مايفيد استبعاد وقوع الكذب من المؤمن عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أَيَكُونُ المُؤْمِنُ جَبَاناً؟ فَقَالَ: "نَعَمْ" فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ المُؤْمِنُ بَخِيلاً؟ فَقَالَ: "نَعَمْ" فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ كَذّاباً؟ فَقَالَ: "لاَ"[25].قد يعترى المؤمن بعض الحالات التي يجبن فيها لكن إذا ووجه بصرامة النصوص وشديد العقاب على التخاذل والجبن والقعود عن نصر الحق وخذلان الباطل نهض من غفوته وهب من نومته، وهذا هو سر التعبير النبوي بتقليل وقوع الجبن من المؤمن، وتقليل وقوع البخل فقد تنتاب المؤمن بعض المشاعر والأحاسيس التي يبخل بسببها ويضن فلا يسخو ولا يجود وإنما يُمسك ‍! لكن إذا ما تذُكِّر بأليم العقاب وشديد العذاب على البخل والمنع للحق والمستحق ومنها " وأما من بخل واستغنى وكذَّب بالحسنى فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى "[26] أقول إذا ما ذُكِّر بهذا أسرع فتخلص من البخل والشح وأدَّى ما أوجبه الله عليه. أمَّا الكذب فلا ترخيص فيه ولا تهاون ليقع فيه المؤمن قليلًا فضلًا عن الكثير " إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب "[27]

 

2- النميمة: نقل الكلام بين الناس لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وإيغار الصدور. ولذا استحق صاحبها الحرمان من الجنة لعظيم الأثر الذي يترتب على جريمته ففيها كشف أستار ونشر أسرار  فضلًا عن أنها ترمي بفاعلها في بؤرة الفسق وتنأى به عن أعين الصالحين من عباد الله عـزَّ وجلَّ حيث توضع له البغضة في الأرض ويُحرم من القبول إذ الجزاء من جنس العمل ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها عَنْ حُذَيْفَةَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ رَجُلًا يَنِمّ الْحَدِيثَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ نَمّامٌ"[28].

 

3- السِباب: وهو شتم الغير بما فيه وبما ليس فيه وهو أعظم إثمًا من السب فالأخير الشتم للإنسان بما فيه أمَّا السِباب فيكون بما فيه وبما ليس فيه. ولذا من يقع منه السباب يرمى به في دائرة الفسق وربما أحبط عليه عمله كما في الصحيح عن عبد الله أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سِبابُ المُسْلمِ فُسوقٌ وَقِتالُه كُفْر"[29].

 

ومما يؤسف له أن من المسلمين من يتذرع بالصوم ويتخذه مدرجة للتطاول على الناس بلسانه وربما تجاوز ذلك إلى اليد بحجة أنه صائم فأين ذلك من هدي السنة في الصوم وما وجه إليه الصادق صلي الله عليه وآله وسلم عن أبي هُريرةَ - رضيَ اللهُ عنه - قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "...الصّيامُ جُنّة, وإِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَب, فإِن سابّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صائم. والذي نَفسُ محمدٍ بيدِه لَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطْيَبُ عندً اللهِ من رِيحِ المِسكِ. للصائمِ فًرْحًتانِ يَفرَحُهما: إِذا أفطَرَ فرِحَ, وإِذا لَقِيَ ربّهُ فَرِحَ بصومهِ"[30]

 

4- الغِيبة: أن تذكر أخاك بما يكره في غيابه. وذلك حرام وقد نفَّر القرآن الكريم منها أبلغ تنفير حيث شبه فاعلها بآكل لحم أخيه ميتا، قال تعالي " ولا يغتب بعضكم بعضًا أيُحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم "[31]. في الصحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟" قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ" قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ, فَقَدِ اغْتَبْتَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ, فَقَدْ بَهَتّهُ"[32].

 

5- شهادة الزور: قال تعالي " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "[33] لهذه الآية عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالي عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الأَسَدِيّ قَالَ: صَلّى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم الصّبْحَ. فَلَمّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِماً. فَقَالَ: "عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزّورِ بِالإِشْرَاكِ بِاللّهِ" ثَلاَث مَرّاتٍ. ثُمّ تَلاَ هَذِهِ الآية: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ حُنَفَاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}[34]. ولذا كانت من الكبائر عن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ (أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ) فَقَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَقَتْلُ النّفْسِ. وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ" وَقَالَ: "أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟" قَالَ: "قَوْلُ الزّورِ (أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزّورِ)" قَالَ شُعْبَةُ: ظَنّي أَنهُ شَهَادَةُ الزّورِ.[35]

 

وذلك لما يترتب عليها من 1- تضييع الحقوق 2- وظلم الحقيقة 3- وتبرئة المتهم 4- ونجاة الظالمين والمجرمين 5- وانتشار البغضاء في المجتمع 6- وفقدان العدالة والثقة 7- والإصابة بالإحباط 8- وفقدان الشعور بالأمان لهذا كله وغيره كانت شهادة الزور كبيرة من الكبيرة للأضرار الخطيرة التي تترتب عليها.على كلٍ من الفرد والمجتمع

 

6- القذف: وهو الاتهام للعفائف والأعفَّة بالفاحشة  وهو كبيرة من الكبائر للحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجتَنِبوا السبعَ الموبقات. قالوا: يارسولَ الله وما هنّ؟ قال: الشركُ بالله, والسّحْر, وقتلُ النفس التي حرّمَ الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكلُ مالِ اليتيم, والتّولي يومَ الزّحف, وقذفُ المحصنات المؤمنات الغافِلات"[36]. ولقوله تعالي " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون "[37]. ولقوله تعالي " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يُوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المُبين "[38]

 

7- السخرية: قال تعالي " لايسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراُ منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن "[39]

 

8- اللغو / وهو كل ما لا فائدة فيه قولًا كان أو فعلًا، قال تعالي "والذين هم عن اللغو مُعرضون"[40]

 

9- التنابذ بالألقاب، المناداة بالأسماء غير المحبوبة قال تعالي: ولا تنابذوا بالألقاب"[41].

 

10-الطعن واللعن والفحش والبذاءة لقد أمسك النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن اللعن حتى عن المشركين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ "إِنّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّاناً. وَإِنّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"[42].

 

عن أنسٍ قال: "لم يكنْ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فاحِشًا ولا لَعّانًا ولا سَبّاباً, كان يقولُ عند المعتَبة: مالهُ ترِبَ جبينُه"[43].

 

هذه أخلاق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فما بالنا نتجاوزها ؟! وهو محل القدوة والأسوة قال تعالي " لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا "[44]

 

هذا طرف من آفات هذه الجارحة التي تُورد موارد التهلكة على النحو الذي أصَّلنا وفصَّلنا حتى يأخذ المسلم حذره وهو يُمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات المادية فلا يضيع ذلك عليه سُدى

 

ثالثًا: صوم العين:

وهذه جارحة ثالثة لها خطرها وعنها يُسأل المرء يوم القيامة قال تعالي " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا"[45]

 

ومما ينبغي أن تُربي عليه هذه الجارحة مراقبة الله تعالي الذي "يعلم خائنة الأعين وما تُخفى الصدور "[46] وصومها يكون عما يأتي :

 

1- النظر إلى العورات.

 

2-نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية أو نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي عنها والمقصود بالأجنبي من يحل للمرأة التزوُّج به …قال تعالي " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم "" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن "[47].

 

3- مطالعة ما ليس بإسلامي. لقوله تعالي " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا"[48]

 

4- مشاهدة ما يدعو إلى الإباحية والتحلل.

 

5- النظرة التي تُدخل الرعب والروع في نفس مسلم.

 

6- النظر في الأوراق الخاصة للآخرين كالأجندة وغيرها مما لها صبغة السرِّية ويغلب عليها الطابع الشخصي.

 

رابعًا: صوم الأذن:

 وذلك يكون بكفها عن:

 

1- سماع اللغو فقد قال تعالي "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم"[49]..

2- سماع الكذب فقد ذمَّ الله تعالي قوما فقال " سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت"[50].

3- سماع الغيبة "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم".

 

4- سماع النميمة وهي نقل الكلام بقصد إيقاع العداوة والبغضاء بين المنقول عنه والمنقول إليه الكلام عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر, قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: مال فقسمه, قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله, ما أراد محمد بقسمته وجه الله, ولا الدار الآخرة، فتثبتّ حتى سمعت ما قالا, ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله, إنك قلت لنا: لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، قال: فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق عليه، ثم قال: دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك ثم صبر "[51].

 

5- التجسس. تتبع عورات الناس والاستماع إلى حديثهم ونجواهم ومُحاولة كشف ما ستروه واستخفوا به من المحرمات قال تعالي "ولا تجسسوا"[52]

 

6-سماع الباطل والأغاني قال تعالي "ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا"[53].

 

خامسًا: صوم اليد:

وهذه الجارحة لها صومها أيضًا فمما ينبغي أن تصوم عنه ما يلي:

1- البطش والإيذاء  للمؤمنين بغير حق وهو كبيرة من الكبائر قال تعالي "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثمًا مبينًا"[54]. إن من علامات الإيمان عند المسلم أن يكون الناس في مأمن من شرِّه عن عبدِ اللّهِ بن عَمْرٍو رضي اللّهُ عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمونَ مِن لِسانِهِ وَيَدهِ, والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه"[55].

 

2- الغلول قال تعالي "ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة ثُمَّ تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون"[56]. لقد أحجم النبي صلي الله عليه وآله وسلم عن الصلاة على من عُرف عنه أنه قد غَلَّ عن زيد بن خالد الجهني "أن رجلًا من المسلمين توفي بخيبر, وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: صلوا على صاحبكم, قال: فتغيرت وجوه القوم لذلك, فلما رأى الذي بهم قال: إن صاحبكم غل في سبيل الله, ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزًا من خرز اليهود ما يساوي درهمين"[57].

 

3- السرقة " إن أخذ أموال الناس في خفية والاستيلاء عليها دون وجه حق سبيل لاستجلاب لعنة الله عـزَّ وجلَّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَعن الله السارقَ يَسرقُ البيضةَ فتقطعُ يده, ويسرقَ الحبلَ فتقطعُ يدهُ". قال الأعمش: كانوا يرَون أنه بيضُ الحديد, والحبلُ كانوا يرون أنه منها ما يَساوي دراهمَ[58].

 

4-كتابة ماليس بحق (وما من كاتب إلاَّ سيبلى ويُبلى الدهر ماكتبت يداه فلا تكتبن بكفك غير شيء يسرُّك يوم القيامة أن تراه). يدخل في ذلك ما يورد في التقارير التي يرفعها الولاة والرعاة عمن تحت أيديهم إلى من هم أعلى منهم وتخضع هذه التقارير للأهواء والميول فتبعد عن الموضوعية والإنصاف والشفافية وتتجنى على الحقيقة ويترتب عليها إلحاق الضرر بغير جريرة بينما يترتب عليها من ناحية أخرى ترفيع من لا يستحق الترفيع وإقصاء ذوى الكفاءات والقدرات عن مواقع التأثير وعليه تكون هذه التقارير شهادات زور وقد مرَّ بنا شيء من أخطارها

 

5- منع حق لله تعالي أو حق أحد من خلق الله عـزَّ وجلَّ قد وجب وحان أوانه قال تعالي " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يُراؤون ويمنعون الماعون "[59] وفي الحديث مايقطع بعدم اجتماع الشح والإيمان في قلب مسلم أبدًا عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم, ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم"[60].

 

 وقد ورد في الحديث الشريف النهي عن منع أصحاب الحقوق حقوقهم والإلحاح في السؤال وتضييع المال الذي استخلفنا الله عـزَّ وجلَّ عن المغيرةِ - رضي الله عنه - قالَ: نَهَى رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ وأدِ البناتِ, وعقوقِ الأمهاتِ, وعن منعٍ وهاتِ, وعنْ قيلَ وقالَ وكثرةِ السؤالِ, وإضاعةِ المالِ[61].

 

سادسًا: صوم الرِجْل:

هذه الجارحة يجب أن تصوم عما يلي:

السير بها إلى أماكن اللهو والخنا والفجور.

السعي في الأرض فسادًا.

البطش بها والإيذاء.

هذه الجارحة سوف تشهد يوم القيامة على أصحابها قال تعالي " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين "[62] وقال تعالي أيضًا " حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرَّة وإليه ترجعون "[63].

 

إن الصوم بهذا النحو إذا حققناه في حياتنا أكد ما يكون أرجى إلى القبول وتحقيق التقوى ثمرة مشروعية الصيام الشرعي المتكامل، ويكون فعلا رمضان ماثلا سائر أشهر العام في نفوسنا ويكون صيام رمضان فعلًا إلى صيام رمضان التالي مكفرا لما بينهما مع اجتناب الكبائر كما في الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه –عن رسول الله r قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"([64]).كم يرجو المسلم أن يعيش المسلمون بهذا الصيام كل أيامهم جهادًا للنفس والأهواء والشياطين من الإنس والجن "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" هذا وبالله التوفيق.

أضف تعليقك