• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. عبد الرحمن يوسف

يقول لي: يا صديقي.. جيشنا مختلف!

أنا: فعلا؟ ما المختلف فيه؟ قل لي!

هو: جيشنا لا يرتكب مجازر مثل تلك التي ارتكبها "جيشكم"!

أنا: لماذا تستبعد ذلك؟ ألم يرتكب هذا الجيش مجازر بحق مئات الآلاف في شرق البلاد؟ أكان ذلك جيشا آخر؟ ألم توثق تلك المجازر والانتهاكات بمئات التقارير؟ قتل واغتصاب وتشريد وكل ما يخطر على البال من الجرائم المنظمة ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم.

هو: كان ذلك في ظرف معين.. وفي زمن مضى.. الوضع الآن تغير.

أنا: ما الذي تغير؟ قل لي.. أحب أن أعرف..

هو: يا عزيزي لقد خلع رأس النظام وغالبية من معه من القيادات.

أنا: إنه الجيش نفسه، بالقيادات نفسها! وعموما سأفترض صحة كلامك (رغم ثقتي أنه غير دقيق)... إن صغار الضباط الذين ارتكبوا المجازر (أعني غالبيتهم) ما زالوا في الخدمة.. ومن قتل في الشرق، لن يتورع عن القتل في الغرب، والشمال، والجنوب (عفوا.. الجنوب لم يعد موجودا بفضل "جيشكم")، بإمكانه أن يقتل المعتصمين المسالمين في العاصمة.. ما المانع؟

هو: هذا احتمال بعيد.. جيشنا منا، ونحن منه.. وقد استجاب لمطالبنا.. والمفاوضات جارية.. صحيح أن هناك خلافات.. ولكنها ستحسم، مسألة وقت!

أنا: يا صديقي.. أليس هذا الجيش هو جيش "العشرية" إياها؟

هو: عن أي عشرية تتحدث؟

أنا: معذرة يا صديقي.. اختلط عليّ الأمر، كنت أناقش صديقا آخر من بلد آخر منذ عدة ساعات، وكان يقول كلامك نفسه.

هو: بالضبط.. أنت تخلط الأمور.. هذا يمكن أن يحدث عندكم، وربما يحدث في بلد "صديقك"، أما عندنا.. فلا أظن.. الاحتمال يكاد يكون منعدما.. نحن شعب طيب، وجيشنا لن يكون أبدا جيش براميل متفجرة أو قتل في الساحات.

أنا: لماذا تستبعد ذلك؟ هل هناك أسباب منطقية؟

هو: يا صديقي.. لا تنكر أنك مصاب بعقدة الانقلابات العسكرية بعد ما حدث عندكم.. أتنكر ذلك؟

أنا: لا أنكر ذلك، ولا تنكر أنت أيضا أننا أصبحنا كتابا مفتوحا لمن يريد أن يتعلم، وأننا قد تعلمنا (بعد فوات الأوان).. وصدقني.. حين أقول لك ما أقول أنا لا "أتدخل" في شأن داخلي، غاية ما في الأمر أنني في قعر هذا البئر السحيق أقول لك من أعماق أعماق البؤس: "إياك أن تسقط في تلك البئر يا صديقي.. أنت تركض بأقصى سرعة والبئر أمامك.. أنا أحذرك من داخل البئر"!

أنت تستبعد الاحتمالات السوداء دون منطق، بينما جميع المقدمات متوفرة. جيش يحكم منذ عشرات السنين، ويستولي على الثروات كلها، ورجاله غارقون في انتهاكات جسيمة لو علمها الشعب لذبحهم ذبحا.. لذلك من الطبيعي حين يتحرك الشعب أن يستوعب هؤلاء العساكر الحراك، وأن يخدروا الجماهير بعدد من الإجراءات، ثم بعد ذلك تبدأ المحاولات الدؤوبة لتفريق الجماهير بخلافات أيديولوجية تافهة، وفي النهاية ينقضون عليهم بدعم إقليمي ودولي كامل.. السيناريو معروف.

هو: جيشكم غارق في السياسة منذ خلقه الله، دولتكم أساسها الجيش، أنتم جيش خلق دولة، لذلك جيشكم مسيّس تماما، المقارنة شديدة الصعوبة.

أنا: يا صديقي.. الجيوش في أوطاننا هي السياسة! لا فرق بين جيشنا وجيشكم!

هو: أنت تدعي تطابقا غير موجود بين بلدين لكل منهما خصوصيته.

أنا: أنا لا أنكر خصوصيات كل بلد، ولكني لا أستطيع أن أخترع فوارق غير موجودة.. في أوطاننا الجيوش هي الجيوش.. خلقها الله لكي تحتكر السلطة والنفوذ والثروات، وتستخدم السلاح لتحقيق ذلك التفوق النوعي على الناس.. وهي تضمن مصالح كل الأمم على حساب الوطن.. وإذا قام بعض الشرفاء بأداء واجبهم الوطني في المطالبة باستقلال وطني، أو عدالة اجتماعية، أو حرية، فمصيرهم القتل أو السجن أو المنفى، والأمثلة على ذلك على امتداد عدة عقود لا حصر لها.. في بلدي.. وفي بلدك أنت أيضا.. في كل بلداننا.. والاستثناءات قليلة.

هو: ما المطلوب إذن؟

أنا: الوعي!

يجب أن يعي الثوار طبيعة المؤسسة وقياداتها، وأن لا تُمنح هذه المؤسسة أكثر مما تستحق من الثقة، أو السلطة، وفي الوقت نفسه، يجب أن لا يتم استفزاز هذه المؤسسة بحيث يظنون أنها معركتهم الأخيرة، وأن لا مناص لهم من القتال قتال من لا شيء لديه يخسره، لا بد من بدء صفحة جديدة (مع عدم إهمال الحساب العادل على ما مضى).

الجيوش ضرورة للوطن.. وهذه الجيوش لا بد أن يتم إصلاحها.. وهو أمر ممكن، ولكنه سيحتاج سنوات طوال، وسيتطلب مزيجا من الحكمة والصبر والحيلة والقوة.. وعلى كل الثوار أن يعوا هذا، وأن يعوا أن المراحل الانتقالية لا بد فيها من التوحد أمام الجيوش، وأي انقسام أيديولوجي أو قبلي أو عنصري أو اجتماعي لا بد من إدارته بحكمة، وإلا ستستغله هذه الجيوش لاستمرار سيطرتها على مقدرات الوطن.

هو: ما زلت أراك تبالغ في شيطنة جيشنا.

أنا: لقد قلنا مثل قولكم منذ عدة سنوات في بلدنا المنكوب، وكانت النتيجة عشرات الآلاف من القتلى، ومئات الآلاف من المعتقلين والمشردين داخل وخارج الوطن!

هو: الوضع عندكم مختلف.

أنا: قد حُذِّرْنا كما نحذركم الآن من مخلصين كثر.. أتعرف بماذا كنا نجيب؟

هو: بماذا؟

أنا: كنا نقول العبارة التي ترددها الآن "جيشنا مختلف"، وسكتنا مجزرة بعد مجزرة، حتى طال القتل كل أشكال الناس وانتماءاتهم، وحينها فقط تأكدنا أن جيشنا "مختلف" تماما عن تصوراتنا عنه، وأن قياداته لا علاقة لهم بدين أو وطن أو شرف عسكري.

انتهى الحوار!

(دائما يدور هذا الحوار قبل المجزرة، مجزرة واحدة تكفي لنعلم أنه لا جيش مختلفا)

أضف تعليقك