• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم د. عطيه عدلان

إلى آخر قطرة في قاعه سوف تشربه الشعوب؛ ثم يكون أمرٌ آخر.. إلى آخر رشفة في كأس الربيع العربيّ سوف تتجرع الشعوب العربية ذلك الخليط العجيب الذي يُطْرب طورا ويخرب أطواراً، ثم يكون أمرٌ جِدُّ مختلف.. فهي مرحلة واحدة وعامَّة، وهي كأس دوارة وطامَّة، والكل شاربها ولا ريب، ولن يستطيع أحد (ولو بذل وسعه) الحيلولة دون غضبة الشعوب وثورتها، ولن يملك أحد (ولو استفرغ طاقته) منع الأنظمة الظالمة من سحق الثائرين وطمرهم في مستنقع الثورة المضادة، حتى إذا ما اكتملت الجملة وتمّ معناها؛ بدأت جملة جديدة تختلف في مفرداتها وعواملها وعلاماتها كذلك.

منطقيٌّ إلى أبعد مدى أن ننتظر من اللاحقين أن يتعلموا من أخطاء السابقين، ومنهجيٌّ إلى أن تبلغ المنهجية منتهاها؛ ألا تُلدغ الثورة من جحر واحد مرات ومرات، وبَدَهيّ من هنا إلى منشأ البداهة ومنبتها أن يهتف الشعب السودانيّ: إمّا النصر وإمَّا مصر؛ كي يعصم ثورته من اتباع خطى الثورة المصرية حذو القذة بالقذة! كل هذا الذي ننتظره ونُنَظِّر له منطقي وبدهي ومنهجي، لكن الأمر لا علاقة له بمنطق التفكير ولا ببداهة العقول، ولا بما تعارفناه من مناهج ومدارس، الأمر تحكمه عوامل فوق طاقة الشعوب واستيعابها، وليس الوعي الذي نسعى بكل ما نستطيع لتحريره وتطويره إلا عنصرا واحداً من جملة كبيرة من العناصر المتحكمة في المشهد؛ فلا وجه لإطلاق العنان لأحلامنا كلما رأينا موجة تهب في جهة من جهات الأرض التي يستهدفها زلزال الربيع العربيّ، إذ إنّ الاسترسال مع هذه الأحلام الساذجة يؤخر اليقظة القادمة، ويعطل مسيرة الإعداد الواجب.

بل إنّ الوعي الذي نرى من وجهة النظر العَجْلَى أنّه نال حظاً من النمو والتحرر لا يزال ناقصا مشوهاً، فالذين أدركوا بَعْدُ أنّ الجيوش ليست جيوشهم، وأنّ العسكر ليس عسكرهم، وأنّ ما كان يسمى بمؤسسات الدولة وأجهزتها ليس سوى أدوات استعباد للشعوب واستبداد بمقدراتها، لم يدركوا بَعْدُ أنّ كثيرا ممن يمتطون صهوة الثورة ليس لديهم رؤية إلا بقدر ما ينظر الناظر إلى أرنبة أنفه، وليس لديهم مشروع إلا خطوط متفرقة لا يمت بعضها لبعض بأدنى صلة، فضلا عن الجهل التام بأسس التغيير وقواعد العمل الثوري، وما بثه الله في كونه من سنن ونواميس.

إنَّ وضع الشعوب العربية مرتب على نحو يحتم سيرها في هذا الطريق الذي يبدأ بثورة عالية المدّ بالغة منتهى السؤدد والمجد؛ لينتهي إلى واحد من مصيرين لا ثالث لهما إلا أن يجتمعا، الأول: الانقلاب التام الذي تستعيد فيه الثورة المضادة النظام السابق ومعه سيل من الحقد الجارف والانتقام الغشوم، والثاني: الحرب الأهلية التي تنشر الخراب واليباب في البقاع والأصقاع، فهذه الشعوب المبتلاة ليس لديها قيادة موحدة تستمد من ثقافتها وحضارتها رؤية للتغيير ومشروعا للبناء والتطوير، وليس بيدها أيّ أداة من أدوات الضغط والإكراه تستطيع بها أن تواجه عسف أنظمة احتكرت كل ما يملكه الشعب من أدوات وآليات، فلم تترك لهم إلا حناجر مخنوقة وسط غيوم قنابل الغاز وسحائب التشويه الإعلامي، أمَّا الذي تملكه هذه الشعوب فهو رصيد إيمانيّ وإنسانيّ يأبى عليها أن ترضخ للظلم أو تستكين للضيم؛ فهي تتحرك بما يمليه عليها هذا الرصيد التليد المجيد.. أمَّا التراتيب والتدابير فليست من شأنها، إنَّما هي من شأن القيادة الرشيدة المفقودة، فلا لوم على الشعوب في تحركها ولا تثريب، وإنَّما التأنيب والتثريب على آخرين، حاضرين غائبين ليسوا في الغادين ولا الرائحين.

إنّنا نعيش في عالم لا تحكمه القوانين التي يتظاهر ويتفاخر بتمجيدها وتقديسها، ولا تحكمه سوى القوى والمصالح؛ القوى التي تتصارع وتتدافع، والمصالح التي تتزاحم وتتقاطع، وما لم يكن لنا في هذا المصطرع الذي لف الكوكب الأرضي ما نقوم به على ساق، فليس أمامنا إلا الفناء أو الهروب إلى الفضاء؛ لذلك نحن نواجه معضلة تستوجب أن نصرف إليها همتنا بدلا من التعلق بالأوهام، تتمثل هذه المعضلة في كيفية امتلاك أدوات الصراع ووسائل الضغط مع الاحتراز في الوقت ذاته من الانزلاق إلى فوضى تصبح بيئة للغلو والتمزق، وتكون ذريعة للتدخلات الأجنبية، هذه معضلة ووراءها معضلات.

من أعضل المعضلات تلك التي حيّرت أولى الألباب وتشاجر عليها الأنداد والأصحاب: كيف نحقق ما يسميه البعض وحدة والتفافا ويسميه آخرون تحالفاً واصطفافا، دون أن يكون هذا الذي نختلف في تسميته قبل أن نصل إلى وضع أسسه وإرساء قواعده؛ دون أن يكون للبعض سبيلا للإبعاد والإقصاء ولآخرين طريقاً للركوب والامتطاء، ودون أن يختل التموضع المتسق مع البناء الثقافي للأمّة والهيكلية الفكرية والعقدية للمجتمع، وكيف نتجاوز التجارب البائسة التي تكررت بنمطية تعكس الركود والكساد الذي أصاب جميع المكونات على اختلاف أيديولوجياتها، والتي اتخذ فيها الجميع من دعوى الاصطفاف سبيلا للتسلط والالتفاف، فارتضوا الضبابية والغموض في المبادئ والآليات على السواء.

إنَّنا بحاجة إلى وحدة حقيقية بين المكونات المتجانسة التي يربطها جملة من الأسس المتينة، ثم إلى تحالف حقيقيّ مع مكونات أخرى تلتقي مع الأصل في كثير من الأهداف والغايات، ثم إلى قدرات عالية في إدارة الاختلاف في المساحات التي يتوجب تركها للاجتهادات المختلفة والرؤى المتباينة، وكل هذا يحتاج منا إلى فقه كبير وفهم دقيق وعمل دؤوب متواصل؛ لذلك لا أعتقد أنّ على الساحة من هو أقبح إثما وأفدح ذنبا ممن يلهينا عن هذه الواجبات بشتى أنواع الإلهاء.

ويلتحق بهذه المعضلة معضلة تعتاص على الجمهور، ولا تنصاع إلا لنفر قليل لا تنتهض بجهودهم مهمة على هذا المستوى من العمومية والخصوصية.. العمومية لكونها مهمة الأمة في مجموعها، والخصوصية لكون من يقوم بها هم من يمثلون الأمة بكافة مكوناتها تمثيلا مختزلا في الكبار منهم. هذه المهمة العويصة المعضلة هي وضع الرؤية ورسم المشروع وإقرار الخطوط العريضة للخطط والاستراتيجيات، وانتداب من يقومون بإدارة الحراك ومراقبته وتوجيه الدفة وضبط البوصلة.

وثمَّ معضلة أخرى، وهي إعادة هيكلة وعي الشعوب بما يمكن معه إعادة ترتيب أوضاعها لتتهيأ لمرحلة مختلفة في طبيعتها عن المرحلة السابقة، بحيث إذا بدأت المقاومة للاحتلال بالوكالة وجدنا حول القيادة نواة صلبة تضمن الاستمرار، وتكون للمجتمع كقطب المغناطيس، ووجدنا في مراحل الحسم كتلة حرجة تتراكم بمرور الأيام وتوالي الأحداث على متن هذه النواة الصلبة، ووجدنا ظهيرا شعبيا على أقل تقدير لا يكون مقاوماً للثورة ولا معترضا عليها.. كل هذا يحتاج إلى جهود كبيرة ومنظمة، كما يحتاج إلى وعي شديد ويقظة دائمة وحركة قوية دائبة.

ولو ذهبنا نستقصي المعضلات فلن يتسع لها مقال ولا مقالات، ولكننا نطرح أسئلة كل سؤال يفجر قضية تستدعي تفكيرا وتدبيرا وتحركا واسعا ودقيقا، كيف يمكن أن نوفر الظهير الذي تسند الحركة ظهرها إليه؟ وكيف يتسنى لنا اختيار القيادة، سواء كانت فردا أو وحدة من أفراد؟ وما هو السبيل إلى توفير الدعم الماديّ الآمن المستقر ولو نسبياً، وما الذي يجب علينا فعله للحد من تجريف الأنظمة للطاقات والكوادر؟ ولماذا تقصر همتنا عن التفكير في سبل لإجبار الأنظمة على إطلاق سراح المعتقلين؟ وما هي خطتنا لاستثمار الطاقات البشرية والإمكانات المادية واللوجستية داخل مصر وخارجها؟ إلى غير ذلك من القضايا الهامّة والأسئلة الملحة.

لكن برغم كثرة المعضلات وضخامة التحديات، لا يزال أهل الحق قادرين على طيّ ذلك كله وتجاوزه والانطلاق منه إلى آفاق التغيير الحقيقيّ؛ فالإسلام بما يحويه من قوى دفع لا يزال غضا طريا حيا نابضاً، ولا يزال قادرا على البعث من جديد، والمسلمون لم ينقطع الخير منهم ولن ينقطع إلى يوم الدين، والسنن الإلهية التي تحكم الأمم تتجه في عملها إلى إدالة المظلوم على الظالم، وأعداؤنا أفلسوا من كل نفيس عزيز لا تقوم الدول ولا الحضارات إلا عليه. وكل ما أفلسوا منه متوفر لدينا، ليس علينا فقط إلا أن ننويها لله، ثم ننطلق على الطريق، وحسبنا أنّ الله مولانا ولا مولى لهم: "ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم".

أضف تعليقك