بقلم: محمد خير موسى
في الحارات العتيقة في المدن الكبيرة قبل أن تخالطها اللّوثات النّخبويّة وفي الأرياف الطّيبة قبل أن يداهمها التمدّن المزيّف وفي البوادي البكر قبل أن تعكّر صفوَ براءتها أوشاب الأدلجة والتيّارات المتصارعة؛ كان إذا مات شخصٌ على طرف القرية أو في إحدى الزواريب الهامشيّة عمّ الحزنُ وخيّمت طقوسُه وألغيت مظاهر الفرح أيّامًا عددًا، فإن كان الميّت ذا شأن في قومه نسي النّاس خلافاتِهم وتعاضدوا في مواجهة المصاب الأليم بل نسي أهل الثّأر ثاراتِهم أيّام العزاء وفرضت عليهم الأصول والرّجولة أن لا يكون منهم إلّا السموّ والرّفعة؛ هكذا كانت الفطرة التي لم تبقَ ولم تدُم وتجلّى غيابها مع إعلان استشهاد الرّئيس محمّد مرسي.
رغم اختلافي معه!!
في هذا الزّمن الرّديء والسّنوات الخدّاعات أبت شريحةٌ إلّا أن تخرم هيبة الموت وجلال الموقف بطريقة تناقض أدنى أخلاق أهل الأصول والشّهامة والرّجولة والمروءة.
بعض من تقدّم للتعزية باستشهاد مرسي أبى إلّا أن يتحفنا بين يدي تعزيته بعبارة "رغم اختلافي معه" أو "رغم انتقادي له" أو "رغم رفضي لمنهجه".
وبعضهم سبق تعزيته بتأكيده على فشل الرّئيس في الحكم وضيق وسطحيّة الإخوان في التجربة السياسيّة.
ومنهم من كالَ شتائم مبطّنة للإخوان ذمًّا في حزبيّتهم وتقوقعهم على ذاتهم، ثمّ ختم حفلة الرّدح بقوله "ورغم ذلك فإننا نترحّم على الرّئيس مرسي"!!
وقد صدقت العرب إذ قالت: "لكلّ مقام مقال" وهي ثلاث كلمات لا تجد أحدًا من المعزّين بهذه الصّيغة إلّا يحفظها ويردّدها لكنّها تغيب عنه وهو يبادرُ إلى التّعزية بالرّئيس الشّهيد محمّد مرسي.
وفضلًا عن أنّ هذا المقام لا يناسبه هذا المقال؛ فالتّعزية ليست ميدان تسجيل المواقف ولا هي مقامُ كسب النقاط أو إنفاذ غيظ النفوس أو إظهار المخالفة والتّباهي بالذّكاء المفرط في مقابل سذاجة الآخرين!!
إنّ هؤلاء بتأكيدهم على مخالفتهم للرّئيس الشّهيد بين يدي التّعزية به يظنّونَ أنّهم يمارسون فحولتهم الفكريّة ورجولتهم في إبداء مواقفهم بلا وجل ويوهمونَ أنفسهم بأنهم يحققون الإنصاف بسلوكهم هذا؛ وهم في الحقيقة بذلك يؤكّدون على أنّهم يفتقرون لأدنى معاني الرّجولة التي تقتضي في هكذا مواقف دفن الخلافات وتأجيلها إلى ما بعد العزاء، وتغيب عنهم أدنى درجات الإنصاف التي تقتضي الترفّع عن التّرّهات بين يدي الموت العادي فكيف إذا كان شهادةً في سجون الطّغاة بأيدي عتاة العصر؟!!
إنّ أمام هؤلاء أيامًا طوالًا ومتّسعًا من الوقت بعد انقضاء هذه الأيام التي ينبغي أن يحضر فيها جلال الشهادة وهيبة الموت ووجوب نصرة المظلوم وتنحية الخلافات هذا إذا كان الموت عاديًّا، فكيفَ إذا كان شهادةً في سجون الطّغاة المجرمين؟!!
غير أن عدم قدرتهم على كظم ما تجيش به صدورهم وتأجيله أيامًا يسيرة يؤكد أن الأمر ليس مجرّد سوء تقدير بقدر ما هو تشوّه نفسيّ تفصح عنه المحن وتكشفه الملمّات.
إنّ هذه العبارة "رغم اختلافي معه" وأخواتُها ومثيلاتُها تحمل إلى جانب عدم مناسبتها للمقامِ إشعارًا بالمنّة في التعزية والاستعلاء على المعزّى والمعزّى به، وكأنّ قائلها يمنّ على الناس أنَّه عزّى وأرغم نفسه رغم اختلافه مع الرئيس مرسي وجماعة الإخوان، ويوحي بأنَّه لولا حرمة الموت لما استحقّ الشّهيد مرسي هذه التعزية من جنابه الشّريف!
كم هو معيب ذلك الانحدار الذي يمارسه البعض وهو لا ينتبه إلى حجم الإسفاف في العبارة وما تحمله من إساءات في مقام التّعزية، وقد ذكر أحد الأخوة في هذا مثالًا جميلًا يقول فيه هلّا تخيّل أحد أصحاب هذه العبارة أنَّ ابنه أو والده هو المتوفّى وجاءه أحدهم يقول له: رغم اختلافي مع أبيك فقد جئت أعزّيك به؛ كيف ستكون نظرته لهذا المعزّي؟!
إغفالُ التّعزية وخصومةُ الكبار
كما كشف استشهاد الرئيس محمد مرسي عن تشوّه عجيب عند بعض المخالفين للشّهيد الرّئيس ومنهجه الفكري سواءٌ في ذلك بعض الإسلاميّين أو العلمانيّين، حيثُ ذهب بعضهم إلى الحديث عن مشهد استشهاد الرّئيس مرسي مع تهميشه لشخص الرّئيس الشّهيد وتقصُّد عدم الحديث عنه أو التّرحّم عليه.
وهذا الموقف وإن كان من العلمانييّن شنيعًا لكنّه من الإسلاميّين أشد بشاعةً وقبحًا، ونحن هنا لا نتحّدث عن السّفهاء الذين أظهروا شماتتهم وانحطاطهم.
بل نتحدّث عن شريحةٍ حاولت أن تظهر بمظهر المتوازن الذي يتحدّث عن الفكرة لا الشّخص، وهذا توازنٌ مقيت وموضوعيّة فارغة، فالمحور في حادثة استشهاد الرّئيس محمّد مرسي هو الشّخص الذي قضى ستّ سنوات من عمره في زنزانةٍ انفراديّة ليقتلَ فداءً لدينه ومبادئه وكرامة شعبه وأمّته.
بعض هؤلاء الإسلاميين صدّر حديثه بقوله: "سواءً وفاة أو اغتيال الدّكتور مرسي، وبغضّ النّظر عن التّفاصيل المتعلّقة بذلك، وبعيدًا عن شخصه هو بالذّات" ثم شرع يشرح عن كون الحادثة تذكرة بالطّغيان، وتذكرة بنفاق المجتمع الدّولي الذي يخدع النّاس بالدّيمقراطيّة!
ولم تطاوع هذا وأمثاله أنفسهم أن يذكروا ولو كلمة ترحُّمٍ واحدةٍ على الرّئيس الشّهيد، فقط لأنّه يخالفه في توجّهه الفكري.
إنَّ هذه الخصومة الفكريّة خصومةٌ لا شرف فيها وتفتقرٌ لأدنى القيم في التّعامل مع هكذا مواقف، وهي ليست زلّات عابرة بل هي مواقف كاشفة، ولن يكون ذا أثر كبيرٍ تصحيحُها تحت ضغط المتابعين مجاملةً ومسايرةً للتيّار العام.
إنَّ هذه الخصومة فاقدةٌ لأخلاق الرّجال الذين تظهر معادنهم في هكذا مواقف، وليت هؤلاء يتمثّلون مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يحاولون الانتساب إليه.
فها هو ابن القيّم يحكي عن شيخه وأستاذه ابن تيمية فيقول: "وجئتُ يومًا مبشّرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدّهم عداوةً وأذى له، فنهرَني وتنكّر لي واسترجع، ثمّ قام من فوره إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: إنّي لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه؛ فسرُّوا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه".
كم نحتاجُ في هذه المواقف إلى أخلاق الكبار وخصومة الكبار وتعزية الكبار ومواقف الكبار الذين يأبَون إلَّا أن يكونوا في الملمّات كبارًا يأنفون الضّعة ويرفضون أن يكونوا أمام استشهاد الكبارِ صغارًا.
أضف تعليقك