بقلم: عامر شماخ
مثل كثير من عظماء التاريخ ممن لا تُعرف أقدارهم إلا بعد رحيلهم؛ غادر الرئيس الإنسان محمد مرسى، ترجل كفارس نبيل ملبيًّا نداء ربه، وقد حاز العزة كلها، والكرامة كلها، والشرف كله. لفظ أنفاسه وهو مكبل بقيود الطاغية ووسط زبانيته الذين لا يرحمون، لكنه مات أبيًّا، عصيًّا، شامخًا، مشرق النفس -رحمه الله.
ويا لها من موتة كريمة تليق بهذا المجاهد العظيم، يموت بين كائديه، من لا يرقبون فى مؤمن إلًّا ولا ذمَّة؛ ليهنأ الرجل الصالح بشهادته، وليخسأ المبطلون، ولتسمع الدنيا بأنه لا زالت المروءة باقية -بل متجذرة- فى أمة محمد، وأن فيها أبطالاً مجاهدين، صابرين صامدين منهم محمد مرسى.
مهما قلبت الصورة فلن تجد إلا الأمانة، والطهر، والإخلاص، والوفاء، ونظافة اليد، وصلاح الفؤاد، واستقامة اللسان، حتى فى أوج الأزمات، وفى ذروة الفوضى وحياكة المؤامرات.. قد كان رجلاً بمعنى الكلمة، لم يأسَ على شىء خاصته كما يأسى الساسة والزعماء، ولم يساوم، ولم يرضخ، ولم يفرط.. بل قاوم وقاوم وقاوم حتى لحظة موته، ولم ندر ماذا كان يُفعل به فى محبسه.
ماذا فعلوا بك يا شهيد وأنت فى محبسك. علمنا أنهم عزلوك منفردًا لست سنوات، ومنعوا عنك مصحفك ودواءك، وحذروا حراسك من أن يكلموك. وخططوا لقتلك بالبطيء، وحسبوا أن تسلم الراية، وتنقض العهد، وتبرم معهم الاتفاقات المحرمة.. لكن الأيام طالت، والقلق واقع بهم؛ حتى أثبت لهم أنك جبلٌ لا تهزه ريح.
مات الأشمُّ ومعه سره، وكنا على أمل أن يبوح به يومًا، وكنا نود معرفة ماذا لقى على أيدى الظلمة، لكنه رحل.. رحل كامل الأجر -نحسبه كذلك- دون شكوى أو ضجر، دون تضعضع أو مسكنة، دون التماس العفو من القتلة. مات مفعمًا بالإيمان، كريمًا مبجلا، قد ترك لنا آثارًا لا تقدر بثمن، ذهب راسخًا قد أذل الله به الظالمين، فلم يمكنهم من نفسه؛ ليضرب المثل لمن بعده بأن الكرامة والشرف لا تُنالان إلا بالتضحيات، ولا عذر لمن يستسلمون أو يفرطون أو يتفاوضون على حساب الدين أو الوطن.
إننى مدين لك أيها الشهيد بالاعتذار؛ إذ لم أكن أعرفك من خلال المرتين اللتين التقيتك. ففى يوم (1/7) صدقت إحدى الشخصيات التى كانت قريبة منك ولـمّا تعرف عظمتك. لما أنبأنى أنك استسلمت، صدقته لما رأيت ما عليك من ضغوط لا يحتملها بشر، التمست لك العذر وقلت لهذا الصديق: (بصراحة. من حقه الاستسلام؛ فإن الجميع خذلوه)، ثم تبين لى أنك رجل، بما تعنيه الكلمة، وقد استرجعت بعدها ما قرات فى كتب السيرة، وفى متون التاريخ، وبما وصل إلينا من مشايخنا عن إخوان سبقوك ثبتوا عند اللقاء فلم يولوا الدبر، وجاهدوا وصبروا.. جمعك الله يا حبيب بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
لقد ذهبت إلى ربك ونحن شهود عليك؛ أنك أديت الأمانة، وصبرت وصابرت ورابطت، وحميت ثغورك كلها، واحتملت صنوف العذاب جميعها، ما علمنا وما لم نعلم، وأخذت بأيدى الناس إلى ربهم؛ فمنهم من استجاب لك، ومنهم من تعرض لك بالأذى، لكنك اجتهدت، وأخذت بالعزم، وكنت أمينًا، دينًا، تجلُّ الصالحين وتقدمهم وتعرف قدرهم، وهم من يشهدون لك الآن فى مشارق الأرض ومغاربها، ويأسفون لرحيلك.. لكنه القدر، ولا راد لقضاء الله.
سوف يذكرك التاريخ فى أنصع صفاته بأنك طلبت الشهادة ونلتها، وبأنك وضعت روحك على كفك من أجل دينك ووطنك، وبأنك جعلت الشرعية ثمنًا لحياتك، وقد كان. كما سيذكر التاريخ أنك كنت واحدًا من عامة الشعب، قريبًا من قلوبهم، فكانوا يقابلونك فى الشوارع يسلمون عليك، وفى المساجد يصلون معك، وأنك ما سرقت ولا غششت ولا بعت ولا فرطت ولا مكرت. كما يذكر التاريخ أنهم خافوا منك ميتًا كما كانوا يخشونك حيًّا؛ من أجل ذلك دفنوك سرًّا فلم يحضرك إلا بنوك، وقد رفعوا الطوارئ وشددوا الحراسات وبقوا على أهبة الاستعداد حتى احتضنك التراب.
فى جوار النبيين أيها العبد الصالح، فى منازل الصديقين أيها المجاهد العظيم. اللهم اجعل دمه لعنة على الظالمين، اللهم اجعل موته فداء لأمته تكف به عنها كيد الكائدين، ومكر الماكرين. اللهم اجعل قبره خضرة ونعيمًا، وأره مقعده من الجنة، واخلف له فى عقبه البر والخير، وأفرغ عليهم الصبر... يا أرحم الراحمين.
أضف تعليقك