بقلم..مضاوي الرشيد
ينبغي أن تكون وفاة أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً بمثابة ناقوس خطر ينذر الزعماء الغربيين الذين يساندون الطغاة وينبههم من غفلتهم.
تأتي وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي داخل المحكمة بعد أكثر من ستة أعوام من الاحتجاز في حبس انفرادي ودون رعاية طبية مناسبة لتؤذن بموت الاحتجاج غير العنيف في العالم العربي.
وأما العواقب، فستكون سيناريو لكابوس مرتبط ببقاء الاستبداد في أشكاله العسكرية والرئاسية والملكية.
شهدت ميادين العواصم العربية خلال السنوات الأخيرة حضوراً مشهوداً لتشكيلة منوعة من الحركات الشبابية والنشطاء المدافعين عن حقوق النساء واللبراليين والقوميين واليساريين وكثير من الناس الذين لا ينتمون إلى توجهات أيديولوجية معينة، وقد ابتكروا استراتيجيات خلاقة للاحتجاج السلمي.
في عام 2013، وفي الفترة التي سبقت الانقلاب مباشرة، أخذت بألباب الناس جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها مرسي وكذلك تفرعاتها في مختلف أرجاء العالم العربي بما ألزموا به أنفسهم من احتجاجات سلمية في مواجهة الدولة الأمنية في مصر وقد كشرت عن أنيابها وأسفرت عن أشد لحظاتها توحشاً. مات المئات في ميدان رابعة العدوية حيث تجمهر المحتجون ورفضوا المغادرة بعد الإطاحة برئيسهم المنتخب.
كانت تونس والقاهرة وصنعاء والجزائر والمنامة ودرعا ومسقط والقطيف وبريدة والفلوجة من بين العديد من المدن العربية التي جربت الاحتجاج السلمي. وكان الربيع العربي الذي انطلق في عام 2011 مندفعاً بفعل النشطاء على مستوى القاعدة الشعبية وبفعل المعارضين الذين سئموا ما كان يمارس من عنف من قبل الدولة ومن قبل العناصر الخارجة عن الدولة. وفي هذا العام، انطلقت الموجة الثانية من الربيع العربي في كل من الجزائر والسودان.
ردت الأنظمة العربية بعنف شديد على المعارضين السلميين وعلى المنتقدين والطلاب والمدافعين عن حقوق النساء وحقوق الأقليات، كما طال العنف علماء الدين وكثيراً من المواطنين العاديين كذلك. استغلت هذه الأنظمة ما بيدها من نفوذ وصلاحيات، في الأغلب بشكل غير مشروع، مما أكد أن المستبدين لا يملكون وسيلة أخرى لإكراه الناس على الخضوع لهم سوى اللجوء إلى القبضة الحديدية.
وحاولت الأنظمة الثرية بالموارد شراء انصياع الجماهير بالرشاوي، فذهبت توزع الهبات والعطايا، وإن كان معظم الناس لم ينلهم من ذلك شيء يذكر.
وجاءت جريمة قتل جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أواخر العام الماضي لتثبت كيف يمكن للمرء أن يُقصى من داخل الدائرة المقربة للسلطة المستبدة، وبل ويكون مصيره الموت بأبشع الطرق على يد أعوان النظام الذي طالما أيده ودافع عنه.
ينشر المستبدون الرعب ويدمرون حياة الناس ويشلون حركة التنمية، ويخنقون الاقتصاد بالفساد ويصادرون الحريات بينما يعمدون إلى استخدام خطاب قومي فارغ من كل مضمون. وبالمحصلة تجدهم يخلقون لأنفسهم هالة شخصية، ويتألهون فيكرهون الناس على عبادتهم.
يستمد المستبدون العرب سلطانهم بشكل أساسي من الحكومات الغربية المتواطئة معهم بما في ذلك حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. ثم انضمت كل من روسيا والصين خلال السنوات الأخيرة إلى مجموعة المتواطئين، حيث تتنافس جميع هذه القوى على كسب أكبر قدر من الهبات المالية عبر بيع هؤلاء المستبدين كميات أكثر وأكبر من تكنولوجيا القتل والتدمير، التي تستخدم لشن الحروب الإقليمية والتجسس على المواطنين وتعذيب الناس العاديين.
يمارس الزعماء الغربيون درجة عالية من النفاق، إذ يشيدون بما يسمى إصلاحات المستبدين بينما يبيعونهم الأسلحة الفتاكة لينتهكوا بها حقوق مواطنيهم الأساسية. لقد استخدمت هذه الأنظمة ألواناً من التعذيب المريع – أو ما يحلو لمسؤولين في الولايات المتحدة وصفه "وسائل الاستنطاق المحسنة" – ولجأت إلى قطع رؤوس الناس وتقطيع أوصالهم وإذابة أبدانهم في الأحماض. ومع كل ذلك، ينجو هؤلاء الظالمون من المساءلة ويحسنون صورهم بما ينفقونه من ملايين الدولارات على حملات العلاقات العامة.
يصور الغرب هؤلاء المستبدين على أنهم أعمدة للاستقرار والسلام، يوفرون الحماية للأقليات والتمكين للنساء، ويشغلون مصانع السلاح الغربية بما يشترونه منها. لقد قاتلوا الإرهاب ذاته الذي صنعوه بأيديهم وعلى أعينهم، ثم يقال إنهم "يحموننا في عواصمنا الغربية".
وكثيراً ما يعتبر الغربيون البديل عن هؤلاء المستبدين خياراً سيئاً بالنسبة للنساء والأقليات، ويعتبرونه بالتأكيد خطراً يتهدد إسرائيل. بلغ بهؤلاء منطقهم الأعوج أن يعتبروا المستبدين مصدراً للاستقرار بينما يرون في الحكومات الديمقراطية باباً يفتح على الفوضى العارمة.
كما يرون أن الديمقراطية تمهد لاستيلاء الإسلاميين الراديكاليين، مثل مرسي، على السلطة، ويصورون الإسلاميين على أنهم يستعبدون النساء ويقتلون النصارى ويحرضون على العنف الطائفي. وهذا بدوره يولد طوفاناً من اللاجئين وطلاب اللجوء والمهاجرين لأسباب اقتصادية، بينما يحافظ الطغاة المستبدون على الانسياب البشري داخل أوطانهم – أو هكذا يرى منطقهم – حتى لو تطلب ذلك إقامة معسكرات الاعتقال وحراسة الحدود بإجراءات غاية في القسوة والتوحش.
وينسى الزعماء الأوروبيون، أو يتناسون، أن انسياب اللاجئين العرب إنما بدأ بالعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في عام 1948، ثم استمر لاحقاً بسبب المستبدين العرب الذين يرهبون مواطنيهم ويحرمونهم العيش الكريم في أوطانهم. بل لقد تفشت وانتشرت هذه الأمراض لعقود كان الغرب خلالها مستمراً في الاعتماد على الشياطين التي يعرفها رافضاً منح الديمقراطية فرصة لتقف على قدميها.
كانت الأغلبية العظمى من العرب تؤمن في عام 2011 بالاحتجاج السلمي، وهي الاستراتيجية التي طالما وعظ الغرب بالالتزام بها، حتى أن المتظاهرين السلميين في عواصم العرب واجهوا الدبابات بصدورهم العارية. لقد نجحت تلك الاستراتيجيات، وإن كان لوقت قصير جداً، في التعبير عن مطالب الناس بالعدل والحرية والكرامة – ثم ما لبثت الانتكاسة أن وقعت وسادت حالة من النكوص.
تم القضاء على نسائم الحرية قصيرة العمر بواسطة تحالف من الأنظمة الرجعية التي سوقت نفسها على أنها واحات من اللبرالية الجديدة حيث يسود بزعمهم الانفتاح الاقتصادي والتسامح الديني والسعادة والحبور، وكل ذلك تحت وطأة الهراوة الأمنية.
قادت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة عملية وأد مشروع التغيير الذي طال انتظاره في مختلف أرجاء المنطقة. وبينما أطيح بعدد من الرؤساء في عدد من العواصم العربية، إلا أن الأنظمة التي كانوا يترأسونها ظلت قائمة متماسكة. واستمرت الهياكل التي ترتكز عليها تلك الأنظمة في تشويه الحقائق وتزوير الوقائع، ويدخل في زمرة هذه الهياكل وكالات المخابرات والشبكات الأمنية بالغة التوحش، والجيوش الفاسدة، والمرتزقة المستوردون من الخارج، ومؤسسات العلاقات العامة.
يُسمًى القمع إصلاحاً، ويسمى الاستيلاء على ممتلكات الغير محاربة للفساد، وتمسى قطاعات التسلية والترفيه حرية، وتسمى الاعتقالات التعسفية إجراءات لمحاربة الإرهاب.
شكلت الاحتجاجات السلمية في عام 2011 قفزة نوعية، وفصلاً جديداً أسدل الستار على عقود من العنف الذي مارسته قوى خارجة عن الدولة.
وكان العنف الذي جاءت الاحتجاجات الشعبية السلمية لتنهي وجوده قد انتشر من الجبال في الجزائر إلى المجمعات السكنية في السعودية مروراً بالواقع السياحية والأماكن الدينية المقدسة العريقة، مزهقاً في طريقه أرواح الآلاف من المدنيين العاديين. وكان أسعد الناس بتلك الموجة من العنف هم الطغاة المستبدون أنفسهم.
إلا أن نافذة التغيير السلمي تنحسر وتوشك أن تغلق تماماً. وباتت الرسالة الآن في غاية الوضوح: إما أن تختاروا الطاغية أو تختاروا الجماعات المتطرفة، والتي أوجد معظمها ويدعمها الطغاة أنفسهم وحلفاؤهم الغربيون.
علماً بأن أياً من هذه الجماعات المتطرفة لم تفلح في الإطاحة بنظام عربي واحد ولا في استبداله بالفردوس الإسلامي الذي يعدون الناس به، ولم يشذ عن ذلك سوى تنظيم الدولة الإسلامية، والذي مازال صعوده ثم أفول نجمه محاطين بسرية تامة. ولكن حتى في حالة هذا التنظيم، فشلت المجموعة في التوسع خارج الحدود التي رسمتها لها القوى الأعلى نفوذاً منها.
يرمز سقوط مرسي على الأرض داخل محكمة مصرية إلى موت البديل السلمي، تماماً كما أن سقوط تنظيم الدولة الإسلامية كان مؤشراً على نهاية الدولة القطرية التي ادعت استلهام نظام حكمها من الإسلام.
لن ينجح البديل السلمي طالما ظل النظام القديم هانئاً بدعم الغرب له. وما من شك في أن موت الخيار غير العنفي للأغلبية العظمي من العرب سوف يؤدي إلى إحياء البديل العنفي وتقويته.
صحيح أن كثيراً من الناس سيعتبرون مرسي شهيداً، ولكن أولئك الذين يزدرون البديل السلمي سيسخرون منهم، فهم يفضلون أن يموت الشهيد في أرض المعركة وهو يخوض حرباً أبدية بين الخير والشر. تعتبر رؤية هؤلاء للعالم ألا وجود إلا للأبيض والأسود، وأنه لا مكان لأي من الظلال الرمادية.
ينبغي أن يكون موت مرسي بمثابة إنذار بضرورة منع المنطقة بأسرها من الانزلاق نحو الهوة السحيقة. إن مما لا شك فيه إطلاقاً أن استدامة الاستبداد ليس استدامة للتنمية.
لقد آن للغربيين الذين يتواطؤون مع الاستبداد العربي أن يعيدوا النظر في علاقاتهم التاريخية مع أولئك الذين خنقوا الديمقراطية بحق بما لديهم من ثروات نفطية.
أضف تعليقك