بقلم: الدكتور طارق الشرقاوي
رغم توثيق حقوقيين بريطانيين العام الماضي، تعرض الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، لمعاملة لا إنسانية تدفع للاعتقاد بأن موته كان مدبرا، تعاطى الإعلام الغربي مع الموضوع بطريقة أظهرت فقدانه لبوصلته الأخلاقية.
المجموعة المكونة من محامين ومشرعين بريطانيين في تحقيق أجرته العام الماضي، قيّمت ظروف احتجاز مرسي، أول رئيس انتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر، وخلصت أنه تعرض في محبسه لمعاملة لا إنسانية مهينة.
ليس من المستبعد أبدًا، أن يكون وفاة الرئيس الراحل بتاريخ 17 يونيو/ حزيران 2019 داخل قاعة المحكمة في ظل ظروف مريبة، ناتج عن المعاملة غير الإنسانية أو نتيجة جريمة قتل عن سابق إصرار وترصد، جرى تنفيذها بدم بارد، أو إهمال متعمد أدى إلى وفاته.
كما أن دفن مرسي على عجالة زاد من عدم الثقة بالنظام المصري، ودفع القيادة التركية مرة أخرى لإبداء مواقف شجاعة ومبدئية تجاه هذا الحادث المروع.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال إن بلاده لن تنسى المأساة التي تعرض لها الرئيس مرسي، ولن تسمح لقضية الصحفي السعودي الذي قتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول جمال خاشقجي، أن تتحول إلى قضية منسية.
وبالمثل، طلب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إجراء تحقيق مستقل حول وفاة مرسي، وأدى هذا الطلب إلى صدور نداءات مماثلة من قبل منظمات حقوق الإنسان الرائدة حول العالم.
إن الوفاة المأساوية للزعيم المصري كشفت شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين ديكتاتوريات الشرق الأوسط والنفاق والانهيار الأخلاقي للغرب الذي التزم الصمت.
فيما يتعلق بهذا الصمت، علقت مجلة "بوليتيس" الفرنسية من خلال عددها الصادر في 20 يونيو الجاري قائلة: كان بإمكان الديمقراطيات الغربية الأكثر رسوخًا وعلى رأسها الديمقراطية الفرنسية الدفاع عن مبدأ واحد على الأقل من مبادئها، فيما يتعلق بوفاة الرئيس مرسي، لقد التزموا الصمت. مفهوم الديمقراطية بالتأكيد يمتلك مفهومًا هندسيًا متغيرًا".
** وسائل الإعلام الرئيسية تتبع نهج الحكومات
في الواقع، إن الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح السيسي لم يوجه ضربة قاتلة لآمال ملايين المصريين في مستقبل ديمقراطي فحسب، بل خلق انسدادًا وجمودًا في الشرق الأوسط.
من ناحية أخرى، تهوى الدول الغربية إعطاء الدروس والمواعظ حول فضائل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتتصرف كما لو أن هناك عناصر أخلاقية في صلب خطاب السياسة الخارجية. إنها تستخدم هذه الصورة بشكل انتقائي لحماية الديمقراطية خارج الحدود، بما يتناسب مع مصالحها.
من ناحية أخرى، فإن هذه الدول نفسها، تقف إلى جانب الديكتاتوريين في الشرق الأوسط عندما يقررون سحق الديمقراطية وتعمل على شرعنتهم. إنها تفعل هذا فقط من أجل تشغيل عجلة مصالحها الاقتصادية الضيقة.
وسائل الإعلام الغربية – إلى حدّ كبير - اتخذت نهجًا يتماشى مع سياسات حكوماتها في الشرق الأوسط. فبعضها تجاهل - في أفضل الأحوال- حقيقة إرهاب الدولة والانتهاكات الفظيعة في العالم العربي، أما في أسوأ الأحوال، فعمدت تلك الوسائل على الطعن بالمعارضة السياسية لهذه الأنظمة وسعت لتشويه صورتها، بالتزامن مع التستر على الجرائم والانتهاكات التي تمارسها ديكتاتوريات المنطقة.
وفي نقل حادثة وفاة الرئيس المصري (..) محمد مرسي، كرست المؤسسات الإعلامية التلفزيونية المختلفة في الغرب، القليل من الوقت لنقل الحادثة، فيما عمدت وسائل الإعلام المطبوعة على تخصيص حيز صغير لنقل الخبر.
إن حقيقة تخصيص مثل هذا القدر الصغير من الوقت والمكان لنقل مثل هذه الخبر الجلل يخبرنا بشيء مفاده عدم رغبة الغرب بسماع الأخبار المتعلقة بزعيم منتخب ديمقراطيا جرى عزله بانقلاب عسكري ثم سجنه وتعرضه لمعاملة غير إنسانية وحرمانه من أبسط الحقوق ثم وفاته في ظروف مريبة بعد سنوات من السجن.
هذه السياسة تدفع الإنسان للتساؤل عمّا إذا كان نهج تلك المؤسسات سيكون مختلفًا لو أن ما حدث مع الرئيس مرسي حدث بالضبط مع الزعيم السابق لجنوب إفريقيا نيلسون مانديلا.
على أية حال، فإن النهج الذي اتبعته بعض وسائل الإعلام الغربية مع نبأ وفاة الرئيس مرسي، يظهر للعيان بعدها عن روح العدالة وحقوق الإنسان والتضامن الإنساني، وتجاهلها للجرائم التي ارتكبها نظام السيسي، ما يجعلها بموقع الشريك في هذه الجرائم.
** سلسلة أكاذيب الإعلام الغربي
بالإضافة إلى التهميش، كان الإطار الإخباري الثاني والأكثر استخدامًا هو النقد المهين لفترة رئاسة مرسي والقيم التي يمثلها.
استفاضت وسائل الإعلام الغربية الرئيسية في سرد الانتقادات لفترة رئاسة مرسي متجاهلة تمامًا نضال هذا الزعيم من أجل الديمقراطية رغم كل الصعوبات والحالة السيئة التي كانت تمر بها البلاد بعد الثورة.
كما تجاهلت وسائل الإعلام هذه حقيقة فوز مرسي بالرئاسة عبر انتخابات حرة ونزيهة شهدت وجود منافسين آخرين، وملأوا نصوص الأخبار بتعليقات وهمية حول الشر المزعوم لحزب مرسي السياسي.
ونشرت لو فيجارو، ثاني أكبر صحيفة في فرنسا، أخبارًا متحيزة من هذا النموذج، علمًا أن قلة من الناس يعرفون أن لو فيجارو العائدة ملكيتها لشركة (داسو) المنتجة للأسلحة والذخائر، عاشت حالة صراع مصالح مع الحكومة المصرية في زمن مرسي. بينما حققت مكاسب هائلة من صفقة الطائرات المقاتلة "رافال" التي بيعت لمصر في عهد عبد الفتاح السيسي عام 2015.
في هذا السياق، كتبت مراسلة الصحيفة في إسطنبول، دلفين مينوي، مقالة غير متوازنة بشأن مرسي في 17 يونيو الجاري، استهلتها بتعريف الرئيس الراحل بأنه "حالة مؤقتة".
وتابعت قائلة: "هذه هي قصة رجل لم يكن ينبغي له أن يكون رئيسًا على الإطلاق"، دون أن تبدي أي امتعاض أو تحفظ على تولي جنرال السلطة في مصر من خلال انقلاب عسكري.
من جهتها، فشلت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية المشهورة بمعاييرها التحريرية الصارمة، في هذا الامتحان. وعلى سبيل المثال، نشرت المجلة مقالًا في 20 يونيو الجاري، بعنوان "وفاة محمد مرسي الرئيس الديمقراطي الوحيد في تاريخ مصر بقاعة المحكمة".
ربما يتخيل معظم قراء العنوان أنهم أمام مقال محايد، إلا أن القارئ للمقال يفهم بأن المجلة اعتبرت وفاة مرسي النفس الأخير في حياة الثورة. وبهذه الطريقة، تصف المجلة المأساة التي مر بها مرسي بأنها "آخر مشهد" من مشاهد الربيع العربي. وتقول باختصار، إنه لن يكون هناك سوى الديكتاتورية على مائدة الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الكلمات المنتقاة من أجل المقال كانت تدل على قلة الوعي وتتسم بالعدوانية. فعند محاولة توضيح سبب تصويت الليبراليين المصريين لمرسي، كتب المقال أن الليبراليين "أغلقوا أنوفهم وألقوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع كما لو أن الرئيس المتوفى نقل نوعًا من الرائحة الكريهة"، في حين كان مرسي المتوفى رجل ذو معايير عالية من الصدق والأخلاق والثقة.
إن هذه الأساليب لا تفتقر إلى الكياسة فحسب، بل تُظهر أيضًا أن الإعلام الغربي السائد فقد بوصلته الأخلاقية.
إن إرث مرسي سيبقى على أية حال من الأحوال. وقد أصبح الرجل بالفعل رمزا للديمقراطية في المنطقة، وفي كثير من الأماكن قام ملايين الناس بأداء صلاة الغائب عليه.
لنأخذ مثالاً واحداً، هتفت حناجر المتظاهرين في الجزائر من أجل مرسي الجمعة الماضية، وصبوا جام غضبهم على قاتليه وقيم الشر التي يمثلونها. وهكذا، ورغم كل أنواع المنشورات المتحيزة، فإن شعوب الشرق الأوسط تعرف جيدًا من هم الأبطال والأشرار، وكذلك أولئك الذين يمولون الشرور وأتباعهم.
أضف تعليقك