بقلم: محمد أحمد بنّيس
يمر تحالف الثورة المضادة بمأزقٍ حقيقيٍّ، ليس فقط بسبب تجدّد الحراك الشعبي في السودان والجزائر، والصعوبات السياسية والميدانية التي تواجهه في اليمن وليبيا، بل أيضا، لأن هناك تصدعا داخل هذا التحالف، يهدّد بانفراط عقده في أي لحظة.
هناك مؤشّرات كثيرة على ذلك، أبرزها انسحابٌ إماراتيٌّ وشيكٌ من اليمن، وهو لا يمكن قراءة دلالاته إلا في ضوء التطورات الميدانية الجديدة في اليمن. ولعل اللافت، هنا، اعتبار أكثر من مسؤول إماراتي هذا الانسحاب المرتقب بأنه يدخل ضمن خطة ''إعادةِ انتشارٍ'' فرضتها اعتبارات استراتيجية وتكتيكية.
في أحيان كثيرةٍ يكون الإعلان عن إعادة الانتشار غطاءً لانتكاسة عسكرية، يجتهد الساسة، عادةً، لإخفاء حقائقها وملابساتها عن الرأي العام. وينطبق ذلك، إلى حد كبير، على الإمارات التي وجدت نفسها أمام تناقضٍ بنيوي ناتج من تطلعها للعبِ أدوار إقليمية كبرى، تتجاوز إمكاناتها وقدراتها.
ولعل نجاح الحوثيين في نقل الصراع إلى داخل التراب السعودي، وقدرةَ إيران المتناميةَ على المناورة أمام الضغوط الغربية، وتفضيلَ واشنطن محاصرتها بعقوباتٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ على خيار المواجهة العسكرية، ذلك كله يبدو أنه يُربك حسابات الإمارات، ويجعلها أكثر اقتناعا أولا بضرورة الانسحاب بأقل الخسائر من اليمن، وثانيا بالبحث عن حل دبلوماسي للأزمة بين طهران وواشنطن، ما يعني أن حساباتها، وهي القريبة جغرافيا من إيران، غير التي تحكم السعودية، الدولة ذات النفوذ السني الكبير، والمعنية أكثر بتمدّد النفوذ المذهبي والطائفي لإيران في اليمن، والمنطقة عموما.
بالنسبة لمصر، هي وإن أكدت، أكثر من مرة، على لسان عبد الفتاح السيسي، على التزامها بأمن حلفائها في الخليج، إلا أن سياستها تجاه الملف الإيراني تعكس رغبة ضمنية لديها في النأي بنفسها عن الصراع السعودي الإيراني، سيما في ظل تضاؤل نفوذها الإقليمي، وتقلّص عناصر القوة لديها، ومحدودية العوائد التي ستجنيها إذا ما اختارت المعاداة الصريحة لسياسات طهران في المنطقة. هذا من دون أن نغفل الحساسية المصرية التقليدية تجاه النزوع السعودي المتزايد نحو زعامة العالم العربي.
في السياق نفسه، يفرض هذا الوضع على السعودية أعباء سياسية أخرى، قد لا تستطيع تحملها على المدى البعيد، سيما في ظل ما يتعرّض له حلفاؤها في المنطقة من انتكاساتٍ متوالية، وبروز بوادر موجة جديدة من الربيع العربي، بعد تجدّد الحراكين الشعبيين في السودان والجزائر، زيادة على تداعيات جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي وتأثيرها السلبي على صورة المملكة في الإقليم.
مؤشّر آخر يبرز حالة التصدّع في هذا التحالف، ويتعلق بما يحدث في السودان، فمصلحة نظام السيسي، وإن كانت تقتضي الالتفاف على الحراك الشعبي، وإعادة إنتاج نظام عمر البشير بصيغةٍ أو بأخرى، إلا أنه معنيٌّ، أيضا، بالحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار والسلم الأهلي، بمعنى أن مصلحة النظام المصري في حلٍّ سياسيٍّ لا تتطور معه الأمور في السودان إلى ديمقراطية عربية ثانية، على غرار التجربة التونسية، وفي الوقت نفسه، يَحول هذا الحلُّ دون انهيار الدولة والمجتمع في السودان، لما لذلك من تداعيات أمنية واجتماعية على مصر. وإذا أضفنا إلى ذلك الحسابات المرتبطة بحاجة مصر لجارها الجنوبي، لتعزيز موقفها بشأن قضية سد النهضة، يصبح أي انفلاتٍ سياسيٍّ أو أمنيٍّ في السودان مصدرَ تهديد حقيقي للمصالح المصرية.
بالنسبة للسعودية والإمارات، فحتى وإن تقاطعتا مع مصر في الاستراتيجية القاضية بإقصاء الإسلاميين، واجتثاثهم من المشهد السياسي، إلا أن الحسابات المصرية لا تدخل ضمن منظورهما للوضع في السودان، فهما معنيتان، أكثر، بإجهاض أي تحول ديمقراطي فيه، مهما كانت التكاليف، لأن نجاح هذا التحول سيعطي زخما آخر للربيع العربي، بعد تجدّد الاحتجاجات في الجزائر، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تونس، بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للديمقراطية التونسية، ما يعني أن هناك مخاوف سعودية وإماراتية متنامية من أن يصبح السودان، بكل ثقله الجيوسياسي، نقطة انطلاق لمتغيرات جديدة في منطقة القرن الإفريقي.
على الرغم من أن هذه المؤشرات قد لا تعكس، في الظاهر، أزمةً في طبيعة الاصطفافات المُشكِّلة لتحالف الثورة المضادة، إلا أن تطوّرها قد يدفع بها إلى إنتاج توازناتٍ جديدةٍ في المنطقة.
أضف تعليقك