بقلم: عامر شماخ
مما تعلمناه من أساتذتنا ومشايخنا -أعزهم الله- أن يكون لكل مسلم “ورد محاسبة” يراجع به نفسه، ويقوِّم خُلُقَهُ، ويراقب من خلاله قوله وفعله، وأين هو من الله؟ وهل تنكَّب الصراط وأصابته الغفلة أم لا زال على الجادة؟ وما الذى ينبغى عليه عمله كى ينجو ويسلم؟
وقد وضع هؤلاء الأفاضل جداول محاسبة، يومية وأسبوعية وشهرية، وأحيانًا فصلية وسنوية للواجبات والفرائض والطاعات التى على المسلم أداؤها دون تقصير، يُقاس من خلالها صدق المراقبة، وصلاح القلب، وتزكية النفس كى لا يصير نهبًا للإهمال الذى يقود إلى الهلاك ومنه استئناس العجز والكسل، وإلف المعصية والذنب.
أما أهم الأوراد التى لا زلنا نُوصَى بها؛ فهى أن يقف أحدنا على رأس كل عمل ويسأل نفسه: هل هذا العمل موافق لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فإن كان موافقًا أقدم، وإن كان مخالفًا أحجم. وعلمونا أن محاسبة النفس تحتاج إلى صاحب ومعين؛ فيذكِّر هذا الصاحب صاحبه إذا نسى، ويعينه إذا ذكر، وينصره ظالمًا أو مظلومًا، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويشد أزره، وينصحه فى خاصته، ولا يبخل عليه بوصية يرقى بها إلى المعالى، وينجو بها من المهالك.
وتلك المحاسبة لها أصل فى الكتاب والسنة، ولا يهملها إلا الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ إذ هى باب الاطلاع على عيوب النفس ومعرفة نواحى فجورها وجوانب قصورها، وأمارات ترديها واعوجاجها، وهى تزرع فى الضمير فضيلة الخوف من الله والرجاء فى عفوه ورحمته، فوق أنها امتثال لأمره -سبحانه- وهى عون للمؤمن فى معرفة حقوق الله وحقوق العباد..
يقول الله تعالى توكيدًا لتلك المحاسبة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18، 19]؛ ففرَّق الله -تعالى- بين أولئك الذين يَزِنُون أعمالهم ومن ثم يصلحون شئونهم، وبين أولئك الذين نسوا الله فلم ينظروا إلى أعمال ولم يتذكروا يوم حساب؛ فأما الفريق الأول فمأواه الجنة، وأما الآخر فمأواه النار عياذًا بالله، ويقول الله تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14]؛ أى حاسب نفسك فى الدنيا قبل أن يأتى يوم تُعرض فيه الأعمال مع استحالة زيادتها أو نقصانها، فاليوم عملٌ بلا حساب، وغدًا حسابٌ بلا عمل، وهذا مصداق قول النبى -صلى الله عليه وسلم-: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى”.
وقد عقل السلف الصالح هذا الأمر فالتزموا به، وأوصوا به من تبعهم، قال أنس: سمعتُ عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- يومًا وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطًا فسمعته يقول -وبينى وبينه جدار وهو فى جوف الحائط-: (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك الله)، وهو القائل -رضى الله عنه-: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا؛ فإنه أهون عليكم فى الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر؛ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). وجاء فى (إغاثة اللهفان) على لسان الحسن البصرى: (لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ وإن الفاجر يمضى قدمًا ما يعاتب نفسه). ومثله ما ورد عن الماوردى فى (أدب الدنيا والدين) قال: (محاسبة النفس أن يتصفح الإنسان فى ليله ما صدر من أفعاله نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله فى المستقبل).
يحاسب المسلم نفسه عن صلواته الخمس: كم واحدة منها أدّاها فى جماعة؟ وهل أخلص فيها النية؟ وهل خشع فيها؟ والأصل أن تكون جماعة فى المسجد؛ فإن لم يستطع أداءها كلها بالمسجد فليؤد ثلاثًا منها على الأقل، وإلا فلمن بُنيت المساجد؟ ولمن شُرع الأذان؟ كما على المسلم إلزام نفسه بورد معقول من القرآن، وخير الأعمال أدومها وإن قلَّ، لكن لا يقل إلى درجة التفريط حتى يفقد أثره وفضيلته، كما لا يُفرِطُ فى التلاوة فيفقد الفهم والتدبر، وورد القرآن يعنى -بالإضافة إلى تلاوته- سماعه ومطالعة تفاسيره وتعلُّم علومه وتعليمها، والتهجد به إلخ. كما عليه ذكر الله فى كل حال، واستغفاره، والتوبة إليه فقد ورد عن النبى –صلى الله عليه وسلم- أنه كان يستغفر الله فى اليوم أكثر من مائة مرة، وهو رسول الله الذى غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل كان الصحابة يعدون له فى المجلس الواحد مثل هذا العدد. وعلى المسلم الإكثار من الدعاء، ومن الصيام، ومن الصدقة، وأن يستنَّ بنبيه -صلى الله عليه وسلم- فى أخلاقه ومعاملاته كلها، وأن تكون له خبيئة، وصنائع معروف، وأن يصل رحمه، ويعود إخوته المسلمين، ويمشى فى حوائجهم حسبة لله تعالى.
ولو اعتاد المسلم ذلك الورد لسلم فى كل وقته، ولعاش راضيًا فى سرائه وضرائه، وفرحه وكربه، فإنه قد أغلق أبواب الشر الآتية من جهتى نفسه والشيطان، وحصَّن ذاته من شرور الخلق، وكُتب عند الله من الفالحين، الذين روضوا نفوسهم فصارت وطيئة ذلولا (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10]، وإنَّ هذا يقود -بلا شك- إلى أن يكون المسلم صادق الكلمة فلا يكذب أبدًا، وفيًا بالعهد، شجاعًا، وقورًا، شديد الحياء، عادلاً، عظيم النشاط، مدربًا على الخدمات العامة، رحيم القلب، كريمًا، سمحًا، ذا مروءة.
وختام هذا الورد سيدُ الاستغفار الذى أوصى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بكثرة ترديده؛ لما فيه من معان عظيمة تشمل التوحيد الخالص، وكمال الخضوع والانحياز لله الواحد الأحد، والبراءة من كل ذنب وإثم، والاعتراف بفضل الله ونعمه على المخلوقين.. “اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهد ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك علىَّ، وأبوءُ بذنبى فاغفرْ لى؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”.
أضف تعليقك