• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. شريف أيمن
تسود أي مجتمع مجموعة من القيم التي تحكم تعاملات أفراده، وتعد القيم مؤسِّسَةً للنظام الاجتماعي، وبمقتضاها يتم تنظيم التفاعل داخله، وهناك قيم عامة على مستوى المجتمع الكليّ، وقيم خاصة بالمجتمعات الفرعية داخل المجتمع الأكبر.

وتتراكم القيم العامة على مدار العقود والقرون لتشكّل وجدان مجتمع ما، وتحتاج القيمة إلى سنوات طويلة ليدخل عليها تغيّر لا يمس صلبها، وربما يحتاج تبدّل القيم إلى عقود، أو ربما يتعذّر المساس بقيمة معينة، بحسب مقدار ترسخها في المجتمع.

تمتاز الحالة المصرية وسائر الدول الإسلامية باستلهام قيمها من الدين الإسلامي، ورغم تعاقب محاولات تحييد الدين كمرجعية قيميّة، فإنه بقي عاملا وحيدا في تشكيل المنظومة القيمية، ومصادمة القيم الدينية تظل مرفوضة في السياق العام للمجتمع، حتى لو دعا إليها البعض أو تبناها البعض الآخر. ومزية القيم المستمدة من نص مقدّس، أنها تأوي إلى ركن شديد من جهة الحكمة ومن جهة مصدر الاستمداد؛ فكون القيمة مستمدة من نص ديني فذاك يُكسبها قوة المصدر ذاته وعلوّه على ما عداه من قيم، لكن ماذا عن القيم الوضعية؟

يثير الانتباه أن القيم الوضعية تسير بمسار موازٍ للقيم الدينية، فهناك قيم تراتبية في القيم الدينية والوضعية؛ بمعنى أن هناك قيما عليا للمجتمع تُصاغ في الدستور، وهي تكتسب علوا على ما عداها. ويتشابه الدستور في ذلك السياق مع النص الديني من حيث الإلزام وعلوّ قيمه وأحكامه، لكن في المقابل نجد العلوّ في القيم المستمدة من النص الديني محل انتقاد، بينما علوّ القيم في النص الدستوري محل ترحيب، وفي حالة توافق النص الديني مع الوضعي، نجد الإخوة في التيار العلماني يذهبون بالنِّسبة إلى النص الوضعي ونزعها عن الديني، وهي مخاصمة قديمة وغير محمودة؛ لما يمتاز به الدين من مكانة بين شعوب المنطقة، الأمر الذي يهيئ للقيمة الرسوخ والثبات، إلا أن النزعة العلمانية إلى تغييب الدين عن الشأن العام تنحو إلى مناطق الخصام، حتى لو كانت هناك فائدة محصّلة.

إذا كانت القيمة المرتكنة إلى الدين تمتاز بالثبات والحكمة المستمدة من المشرِّع جل شأنه، فإن القيمة الوضعية تمتاز بالنِّسْبِيَّة، وتختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، ويمكن التمثيل لذلك بقيمة "المقاومة". فعلى المستوى العربي والإسلامي، كانت مقاومة الاحتلال "الفرنسي والإيطالي والانجليزي والصهيوني" وغيرهم؛ أمرا لا يقبل النقاش، ومع مطلع الألفية الحالية، بدأ يدور نقاش (علني) حول جدوى المقاومة المسلحة، وأصبح النقاش ينحو مؤخرا إلى تجريم المقاومة الفلسطينية، وأصبح من حق دولة الاحتلال أن ترد على (العدوان الذي يلحق بها)، ورغم ذيوع ذلك الخطاب في الأوساط السياسية، فإنه لم يجد موضعا في الخطاب الشعبي إلا مؤخرا.

كذلك تظل قيمة تداول السلطة والديمقراطية مقبولة، إلى أن تصل إلى مساحة تهديد مصالح الدول الكبرى، فيتم دعم الديكتاتوريات إذا كان المقابل لها وصول إسلاميين في المنطقة، أو وصول يساريين في أمريكا اللاتينية، أو حاكم مستقل عن الفلك الغربي في أي منطقة نفوذ لهم، مما يشير إلى عمق أزمة القيم في النظم والنخب الغربية، وعدم ثباتها وازدواجية المعيار الذي يتم التعامل وفقه.

 أيضا مفهوم كـ"الإرهاب" يخضع لتفسيرات الأقوى، فبإمكان الولايات المتحدة (مثلا) أن تصم أي دولة ضعيفة أو جماعة ما بأنها إرهابية، ويقابل هذا الوصف ما يضاده لدى الرافضين للوصف الأمريكي، كوصف الولايات المتحدة وإسرائيل لحركات فلسطينية بأنها إرهابية، بينما هي في السياق الشعبي العام حركات مقاوِمة، وتقوم الأنظمة المستبدة بتوصيف الحركات المعارِضة بأنها إرهابية، فيخضع التوصيف للهوى السياسي وقدرة الطرف الأقوى، فنجد جماعة الإخوان إرهابية في مصر، ونجدها أغلبية برلمانية في تونس، ونجدها كانت على رأس السلطة في مصر ذاتها منذ أعوام قليلة، وهذا التغيّر في التوصيف راجع إلى تحكّم الأقوى في القيم الوضعية.

 

هذا التحكّم متعذِّر في الحالة الدينية، إذ الانحراف عن القيمة الدينية مرصود من عموم المجتمع، ويصعب انهضامه في السياق العام، وإن تواجد بدرجة ما. فمثلا، العلاقة خارج إطار الزواج، تتنازع بين الرفض الديني والقبول الوضعي، ورغم محاولات ترسيخ قبولها في الوجدان العام، فإنها تظل عاجزة عن إحداث اختراق حقيقي. وزيادة حالات العلاقة خارج إطار الزواج لا يعني قبول المجتمع بها، فمرتكب الفعل نفسه غالبا ما يأبى انزلاق من يعولهم فيه، من الذكور أو الإناث، فهو مدرك لكونه يتجاوز القيم الدينية والمجتمعية، وإن تلبّس بذلك التجاوز، ومن ثَمّ لا يمكن تصوير القيمة الدينية على أنها نسبية.

ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر تحديدها وإطلاقها بصورة انتقائية. كما أن استخدام القيمة الدينية في غير محلها، يجد من علماء الدين من يناهضه في كل البقاع الإسلامية، وليس داخل الحدود الوطنية فحسب، إذ الدين مِلك لكل من آمن به، ولا يقدر أحد على نزع تلك المِلكية من أي مؤمن.

نجد هنا إشكالا حول من يمكنه صياغة القيم الدينية في ظل الخلاف المذهبي، وحلّ ذلك مرتبط بكيفية تفسير النص، وتعدّ المدرسة التراثية أقدر على استلهام روح النص من غيرها؛ لأنها مقيدة بضوابط صارمة في تعاملها مع النص، كما أنها مدرسة مترامية الأطراف، ولا مركزية لها تسمح بسيادة التفسير الجانح عن مقصود النص إذا كانت تابعة لظام استبدادي. ثم هي تتوارث منهجية تفسير النص الديني، مما يجعل لها أصولا يمكن التحاكم إليها إذا خالفها أحد بغرض التوظيف السياسي.

ثم إن هنالك نسبية أخرى تعرض للقيم العامة في المجتمعات على مستوى القيم غير الكلية؛ التي لا تستند إلى نص مقدس أو قيمة وضعية عليا. فمثلا قيمة الإيذاء البدني تكون مجرّمة من حيث المبدأ، لكن عند إمساك لص أو متحرّش تغيب قيمة الإيذاء البدني، ويكون هناك إغضاء للطرف بـ"وعي" عن قيام البعض بالتعدي على المتحرش بالضرب، ممن يرفضون الإيذاء البدني بشكل عام، وربما يتورط البعض في الذهاب بعيدا بالدعوة إلى بتر أحد أعضاء جسده ليكون عبرة لغيره، وهو نفس الشخص الذي يرفض بتر عضو عندما يكون البتر "حدّا شرعيا".

ليس الغرض هنا المحاججة عن ثبات القيم الدينية ونسبية القيم الوضعية، رغم أن هذا حق، لكن المقصد أن هذا التراوح في القيمة الواحدة، يستدعي ألا يتم التعامل مع كل أمر على أنه لا يحتمل سوى أحد اللونين (الأبيض أو الأسود)، فالمساحات بين المواقف واسعة، والحياة أقصر من الخصام أو المنافحة عن قيمة مضطربة أو قيمة يفسرها من شاء دون ضوابط.

أضف تعليقك