بقلم: سليم عزوز
كلما دفنتها الأحداث، عادت لسطح الذاكرة من جديد، تذكرني بها.
إنها صورة وزير الدفاع المصري الفريق محمد زكي، الذي يغيب كثيرا عن لقاءات السيسي العامة، دون أن ينتبه لغيابه أحد، على العكس من الوزير السابق الفريق صبحي صالح، الذي كان إذا غاب طُرح السؤال: ماذا هناك؟! وقد اعتاد الناس أن يروهما معاً، باعتباره الشريك في الانقلاب العسكري، والشريك بالتالي في الحكم.
الصورة المقصودة، هي صورة الفريق زكي بالملابس المدنية، وهو يصافح المنتخب المصري لكرة القدم، قبل مباراته النهائية في كأس الأمم الأفريقية، دون أن يتوصل الناس في بلدي إلى مدلولها.
صحيح أن هذا الحضور ربما يُفسر بأن السيسي كان في الخارج، لكن لم يكن هناك مبرر لحضور وزير الدفاع، فقد كان يكفي حضور وزير الشباب والرياضة، أو رئيس الحكومة (كما حضر في المباراة النهائية)، ليؤكد على اهتمام الدولة المصرية بهذه المباراة، وبتشجيع المنتخب الوطني، واللافت هو في هذا الحضور بالملابس المدنية وليس بالبزة العسكرية!
النحس:
عندما سئلت في مداخلة تلفزيونية عن هذا الحضور الغريب لوزير الدفاع، قلت مازحاً: ربما أراد عبد الفتاح السيسي أن يحمله مسؤولية الهزيمة، فإذا فاز المنتخب كان فوزه راجعا لاهتمام السيسي وزيارته له، وإذا هُزم فإن الهزيمة ترجع لهذا الحضور الأخير لوزير الدفاع. لكن بعيداً عن المزاح، فقد كان يمكن لرئيس الوزراء أن ينوب في مسألة النحس هذه!\
هناك رأي يتمثل في أن السيسي كان بالدفع بوزير الدفاع؛ يريد أن يواصل سياسته في عسكرة الحياة المدنية. ومن المهم في هذه السياسة أن يكون الحضور عسكريا محضاً، فينيب العسكري عنه وزير الدفاع وليس رئيس الوزراء، لكن لماذا الزي المدني وليس البزة العسكرية؟ لا سيما أنه من المعروف أنه إذا تخلى وزير الدفاع عن لباسه العسكري في الداخل في اللقاءات العامة وشبه العامة، فإن في هذا إشارة لها ما بعدها. وغالبا ما يسافر وزراء الدفاع للخارج بملابسهم العسكرية، ما داموا في مهام رسمية، وإن كانوا أحيانا يتخلون عنها. ولم نشاهد وزير دفاع في السابق بملابس مدنية في لقاءات متعلقة بمهام دوره كوزير!
في فترة حكم المجلس العسكري، التقطت صورة لرئيس المجلس ووزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي في منطقة وسط القاهرة، بملابس مدنية، وكانت هذه إشارة فهمها الثوار، فكان هتافهم: "تلبس بدلة، تلبس بوكسر.. يسقط، يسقط حكم العسكر".
التفكير في منصب الرئيس:
طبيعة حكم الفرد في مصر لا تسمح لأحد، ولو كان وزير الدفاع، أن يفكر، ولو بينه وبين نفسه، في أن يكون رئيساً. وأتذكر في هذا الصدد أن صحفياً أراد أن يجامل وزيراً في مقال، فلم تسعفه العبارة، فذهب بعيداً بأن قال إنه الأصلح لتولي الحكم في مصر، بعد الرئيس مبارك. ومع أنه لم ينس الدعاء للرئيس بطول العمر، إلا أنه تلقى اتصالاً من الوزير بعد طبع الجريدة، قبل الفجر، أيقظه من نومه، فلما طلب منه الحضور إلى منزله، عبثاً حاول الزميل أن يؤجل اللقاء، فالصباح رباح. وقد استقبله الوزير بعاصفة من الهجوم، أربكته، فكيف هذا وقد كتب مقالاً يجامله فيه؟ ولم يفهم أنه أخطأ إلا عندما قال له الوزير وهو يسبه ويلعنه: هذا ملف لا ينفع الاقتراب منه بأي قدر!
المعنى، أن زيارة المنتخب تمت بتوجيه من السيسي، وليس حتى بطلب من وزير الدفاع. والسيسي نفسه يعرف مدلول هذه اللقاءات، سواء بموافقة الرئيس أو بدون علمه. وقد ألغى له الرئيس محمد مرسي لقاء مع القوى المدنية، كان قد طرح الدعوة وتلقى موافقة عليها من وجهاء القوى المدنية، بمن فيهم الدكتور محمد البرادعي. أما اللقاء الثاني فكان مع فنانين وفنانات وبحضور صحفيين، مع ملاحظة أن عبد الفتاح السيسي حضره بالبزة العسكرية. وكشفت الأيام أن هذه اللقاءات، سواء ما تم منها أو ما لم يتم، كان لها ما بعدها، وكانت تمهيداً للانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب!
وإذا استبعدنا أن يمهد وزير الدفاع لنفسه بهذا الظهور، فهل يعقل أن يكون السيسي هو من يعده لذلك؟!
قبل الإجابة على هذا السؤال، نود التأكيد على أن قيمة أي وزير للدفاع لا يستمدها من ذاته، ولكن من موقعه. وبجرة قلم، يمكن للرئيس أن يجرده من أهم ما يملك، فيصبح في التو واللحظة واحداً من آحاد الناس. فعلها الرئيس السادات مع الفريق محمد فوزي الذي كان عضوا في محاولة الانقلاب على الحكم، كما فعلها مبارك مع أبو غزالة مع علمه أنه يستحيل أن يفكر بعيداً عما هو فيه، كما فعلها الرئيس محمد مرسي مع المشير حسين طنطاوي، وفعلها السيسي مع شريكه في الانقلاب الفريق صدقي صبحي، آخذا بالأحوط!
الاحتياط واجب:
رغم تعديله للدستور، بعدم ممانعة أمريكية، فإن السيسي بطبيعته يحتاط لكل أمر، فيحصن موقع وزير الدفاع في الدستور لأن في نيته أن يستمر فيه، ثم يحرص على أن يختار البرلمان بعنايةً ليتمكن به من تعديل الدستور، وحتى لا يكون عقبة ضد رغبته، كما يضمن به تمرير قوانينه. ويخشى من مجموعة أفراد شكلوا جماعة الأمل؛ وكل ما تهدف إليه هو خوض انتخابات البرلمان القادمة، فيعتقلهم آخذا بالأحوط، فماذا لو اتسعت الدائرة وجاء برلمان خارج السيطرة؟!
ويخشى من جمال مبارك، فيكون الحكم الوحيد ضد الأسرة هو بهدف وقف طموحه السياسي، ثم يخشاه مع ذلك فيكون التحذير بأن يتوقف عن تردده على الأماكن العامة. لا تنسى أن البرلمان من حقه إسقاط العقوبة بقانون، ومن هنا لا بد من أن يكون البرلمان القادم كالبرلمان الحالي، "والاحتياط واجب".
فطبيعة السيسي الشخصية لا تجعله يشعر بالاطمئنان أبداً، وقد تسقط الحماية الأمريكية بسقوط ترامب. والأمريكان يدركون أن الأوضاع في مصر ليست مستقرة، وهذا الحضور الأمني في المشهد السياسي هو التعبير العنيف عن منتهى الضعف. لقد قُتلت بناظير بوتو، لكن قتلها لم يكن دليل قوة الجنرال برويز مشرف، ولم يمنع من سقوطه بعد ذلك في الانتخابات!
والنظام القائم في مصر ليس نظاماً مؤهلاً للحياة، والسيسي ليس مؤهلاً للقيام بإصلاحات تخفف من حدة الاحتقان. إنه لا يملك سوى القوة والقدرة على إساءة استخدامها. وليس بالقوة وحدها في هذا الزمان يتحقق استقرار الدول، فبعد أن أسرف عسكر الجزائر في القتل وفي عشر سنوات عجاف، خرجت الجماهير وأسقطت النظام.
ولا حل في مصر إلا ببديل آمن، أو الطوفان الذي لن يقف عند حد الانتقام من النظام وحده، وإنما قد يمتد إلى المعارضين له أيضاً، فلا ننسى أننا جميعاً أصحاب تجربة فاشلة ضيعت ثورة 25 يناير، مما يجعلنا أيضاً هدفاً لأي ثورة جديدة.
ويدرك السيسي أنه وإن كان على قلب الدوائر الغربية كالعسل، إلا أنها لا بد من أن يكون لديها البديل الجاهز لأي تطور خارج الحسبان، حتى وإن لم تستخدمه في التو واللحظة. انظر كيف أنها حافظت على خليفة حفتر لربع قرن ليكون بديلاً للقذافي، فلما سقط أرسلته ليكون بديلاً لحكم الثورة!
السيسي لم يمكن واشنطن من وجود البديل لوقت الحاجة إليه: لقد سجن الفريق سامي عنان، كما اختطف الفريق أحمد شفيق وحاصره في منزله، في حالة أشبه للتحفظ عليه!
فهل يتحرك على قاعدة بيدي لا بيد عمرو، ليخلق بديله قبل أن يصنعوه هم، وخوفاً من لحظة يكون القرار فيها طي صفحته؟!
أضف تعليقك