• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: عامر شماخ  

يستطيع الذين كانوا يستقلون «مترو القاهرة» فى أوائل تسعينيات القرن الماضى  تحت إدارته الفرنسية والذين يستقلونه الآن بإدارته المحلية -التفرقة بين دولة حضارية وأخرى عشوائية، مثل الفرق بين عاصمة أوربية وأخرى عربية. هناك نظام وتخطيط وهدوء ووعى، وهنا عشوائية وتخبط وضجيج وإهمال..

والذى يصنع هذا الفرق هو الأنظمة، التى إما أن تكون ديمقراطية متحضرة تعرف لمواطنها قدره، أو استبدادية متخلفة لا فرق عندها بين المواطن والكلب الضال، ولو أنها اعترفت بهذا المواطن وأنه السيد وهى الأجيرة لديه لما أغرقته فى هذا المحيط  من الركاكة والإهمال.

إن زيارة واحدة لمنطقة «وسط البلد» بالقاهرة؛ أى قلب عاصمة المحروسة، تنبئك أى نظام يحكم هذا البلد، وأى مكانة لهذه الدولة بين الدول، وإذا كان قلب العاصمة على هذا الصورة من التلوث والقذارة فماذا عن أحوال باقى الأحياء؟ وما هو حال الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان والفقر، بالطبع حالها يفوق الوصف، فما عايناه  بها يتطلب الحديث عن الآدمية قبل أى شروح.

وهذه العشوائية، وهى ضد العلم والإدارة والجودة، صارت رؤية ومنهجًا لهذه الأنظمة؛ أى أنها مقصودة، وهى لا تختص بنظافة الشوارع والطرقات أو بتخفيض درجات التلوث والضجيج، إنما صارت منظومة شاملة تغطى قطاعات الدولة كافة، بدءًا من مناطق السير، مرورًا بأداء المؤسسات الخدمية، وانتهاء بأعداد  الخريجين، وأدعوك لجولة -على سبيل المثال- إلى وحدة من وحدات تراخيص السيارات، أو مكتب من مكاتب الشهر العقارى لترى العجب العجاب مما يعجز القلم عن وصفه، بل لعلك حاولت ذات مرة الاتصال بسيارة إسعاف أو بسيارة نجدة فلم يرد عليك أحد، وإن رد فلن يأتيك إنقاذ حتى يموت المصاب أو يهلك طرف من أطراف المشاجرة أو يفر اللص الذى هاجمك بسرقته.

بل انظر إلى خطوط التنظيم فى الأحياء والمدن الجديدة، ومدى الالتزام بالتراخيص فى التعلية والبروز وغيرها؛ سوف تتأكد أنك لست فى دولة، بل فى (شبه دولة) عاجزة، فاشلة، فاسدة. لقد أُسست أحياء كاملة يقطنها الملايين (مثل منطقة فيصل بالهرم) بشكل عشوائى مقيت، وبطريق الفساد الذى أتاح لـ(تجار الأراضى) إقامة عشرات الآلاف من الأبراج المخالفة، ولا زالت يد المخالفين تعمل لا تكفها يد مسئول واحد رشيد، بل الكل يشجعها، ولا سامح الله من اعترف يومًا بقوله: (الفساد فى المحليات للركب).

فى أحاديثنا العادية نردد كلمة «مافيا» كثيرًا، وهى كلمة كريهة فى ثقافة الدول المحترمة -ورغم ذلك نحن نتقبلها ونمر عليها مرور الكرام، نقول: مافيا الميكروباص، الدروس الخصوصية، المخدرات، الأدوية، الأغذية، التاكسى إلخ ولم نسمع يومًا أن هذه الـ(مافيا) أو تلك قد اختفت من حياتنا، بل نفاجئ بأخريات تنضم إلى سابقاتها كأنها حبال مشنقة قد التفت حول رقبة المواطن المصرى ولا مخلص له منها..

إن الفساد عامل أساس من عوامل تمكين العشوائية، وهو -أى الفساد- وريث الاستبداد الذى يسعى بشتى الطرق لتمكينها؛ لئلا يفيق الناس من مشكلاتهم الحياتية فيطالبوا بحقوقهم السياسية، كما أن «أشباه الدول» لا يمكنها الأخذ بأسباب التطور والحضارة؛ لأن فاقد الشىء لا يعطيه، ولأنها فاشلة قد اعتادت هذه الأوضاع، ولو أن هناك قسطًا من العدالة والحرية لشعر المواطنون بالانتماء ولساعدوا دولتهم فى حل مشكلاتها، ولنشطت التنظيمات الشعبية؛ لكن غابت الديمقراطية فغابت تلك التنظيمات وغاب المواطن الذى تم الاستهانة به حتى لم يعد مهتمًّا بمن حوله وما حوله.

وإذا كانت تلال القمامة –مثلًا- فى شوارع المحروسة تسىء إلى صورتها فى الخارج؛ فهذا أهون على النظام من الشروع فى التغيير الذى سينشئ ساحة سياسية جديدة ربما سلبته ملكه، فليبق الوضع على ما هو عليه، وتبًا للديمقراطية، ولو سألهم سائل لِمَ لا تأخذون بها قالوا نحن متفرغون لعلاج مشكلاتنا التى ترون آثارها طافحة فى الشوارع.

ما بين إمبراطورية «التكاتك» وإمبراطورية «الأسواق العشوائية»…. و«إمبراطورية العسكر» سيبقى المصريون رهينة داخل هذا السجن الكبير؛ حتى يأتى الله بأمره، فإذا انحلّت عقدة تبعتها باقى العُقد، وكلما سقطت «مافيا» تبعتها أختها.. حتى تسقط كبراهم التى اعتبرت مصر العظمى معسكرًا من معسكراتهم وهى تقوم بدور الراعى على المائة مليون مواطن،  ولا رأى إلا رأيها ولا دين إلا دينها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أضف تعليقك