• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم.. محمد حافظ

على مدار الأسبوعين الماضيين حملت الجرائد المصرية خبرين؛ كليهما تحت عنوان "إعلان حالة الطوارئ بوزارة الري"، حيث تحدث الخبر الأول عن طوارئ الوزارة بسبب مناقشة البرلمان الأوغندي لاتفاقية عنتيبي واقتراب التصديق عليها؛ لتكون جزءا من القانون الأوغندي الذي يحكم العلاقة بين أوغندا ودول حوض النيل، وتحديدا الدولة المصرية، بينما تحدث خبر الطوارئ الثاني عن فقدان الدولة المصرية لقرابة خمسة مليارات متر من تدفقات نهر النيل.

وزارة الري لم تتحدث عن انخفاض حصة مصر بقرابة خمسة مليارات متر مكعب، ولكنها تحديدا توقعت انخفاض "إيراد النيل" بقرابة خمسة مليارات متر مكعب، ولم تحدد أسباب الانخفاض. فهناك فرق بين المعني الفني لمصطلح "حصة مصر" و"إيراد النيل".

إيراد النيل يعني إجمالي تدفقات النهر (النيل الأزرق، السوباط، عطبرة، النيل الأبيض) والذي يصل لقرابة 84 مليار متر مكعب سنويا، جميعها تصب في بحيرة ناصر، حيث توزع على هيئة 55.5 مليار متر مكعب حصة الدولة المصرية، و18.5 مليار متر مكعب حصة الدولة السودانية، و10 مليارات متر مكعب نصيب الفواقد من بحيرة ناصر.

وهنا يجب أن نتساءل عن مغزى السماح لوزارة الري اليوم بالتحدث عن تلك الفواقد، وتحديدا بعد زيارة وزير خارجية إثيوبيا للسيسي في قصر المنتزه قبل أسبوع مضى. فسياسة السيسي منذ الانقلاب هي التكتم تماما عن أي أخبار "سلبية" تخص الموقف المائي المصري، ومنع الإعلام في التحدث عن بحيرة ناصر، وجعل هذه المعلومات تخضع للسرية التامة على كونها "أمنا وطنيا".

فعلى الرغم من كمية التفاؤل التي حملتها الجرائد المصرية عن زيارة وزير خارجية إثيوبيا لمصر، وكيف أن رئيس وزراء إثيوبيا قد أرسل رسالة شخصية لأخيه السيسي يكرر فيها القسم الشهير؛ مؤكدا بأن سد النهضة لن يضر مصر بل سيكون بردا وسلاما عليها، وأنه ينتظر على أحر من الجمر لحظة العودة لطاولة المفاوضات الثلاثية لتنفيذ كل ما يطلبه أخيه السيسي بشأن تحديد فترة ملء خزان سد النهضة دون أي تأثير لذلك على حصة مصر، إلا أن تسريبات اللقاء بين السيسي ووزير خارجية إثيوبيا أظهرت "سذاجة وكذب" الإعلام المصري، وأن ما دار بين السيسي ووزير خارجية إثيوبيا يختلف تماما عما جاء في الصحف المصرية. فرئيس وزراء إثيوبيا لا زال حتى هذه اللحظة يرفض الرجوع لمفاوضات سد النهضة بحجة أنه ينتظر حدوث استقرار سياسي في السودان للعودة لطاولة المفاوضات، مؤكدا بأنه لا مفاوضات ثلاثية جديدة قبل الموافقة على التقرير الاستهلالي للمكاتب الاستشارية، والذي قبلته الدولة المصرية بكل عيوبه؛ وأجّلت كل من إثيوبيا والسودان الموافقة عليه كنوع من المماطلة التكتيكية.

كما حملت بعض التسريبات غضب الحكومة المصرية من الموقف الإثيوبي، مؤكدة بأن لديها أدلة استخباراتية تؤكد وصول معدل بناء السد لأعلى من نسبة 67 في المئة التي أعلنتها إثيوبيا مؤخرا، وأن الدولة المصرية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام مواصلة إثيوبيا بناء السد دون الاتفاق على كيفية الملء الأولي لبحيرة التخزين وفقا لاتفاقية مبادئ سد النهضة.

وعليه، فيمكن القول إن تصريح وزارة الري بأن مصر تفقد خمسة مليارات متر مكعب من تدفقات النيل، وفقا للأدلة التي أظهرتها صور القمر الصناعي والنماذج الرياضية، هي تصريحات "عائمة" غير موضحة بشكل محدد لأسباب تلك الفواقد، وهل هي فواقد نتيجة "تغيرات مناخية" أم لأسباب "جيولوجية".

ولترجمة "لوغاريتمات" وزارة الري لمعرفة ما تصبو إليه حقا وعدم الاكتفاء "بالتلميح" فقط، يجب أن نتذكر أننا حتى اليوم الأول من آب/ أغسطس لم يصل فيضان عام 2019 للأراضي المصرية بعد، بل لا زال يملأ بحيرات السدود السودانية، والتي ستحجز لنفسها قرابة 10 مليارات متر مكعب ثم تبدأ تصرف باقي الفيضان لبحيرة ناصر، ليصل إليها مع نهاية الأسبوع الأول من هذا الشهر. وعليه، فلا يمكن القول بأن تلك الخمسة مليارات متر مكعب هي انخفاض في فيضان هذا العام، والذي لم يصل لبحيرة ناصر بعد، بل هي انخفاض في فيضان العام الماضي 2018، وربما أيضا فيضان 2017. فالنماذج الرياضية لدي وزارة الري المصري تعتمد على بيانات حقيقية وهي بيانات الأعوام الماضية، ولا يمكن أن تكون بيانات فيضان هذا العام الذي لا يعلم أحد عنه شيئا بشكل مؤكد.

وعليه، فإرجاع سبب اختفاء تلك الخمسة مليارات متر مكعب لأسباب تغييرات مناخية هو أمر غير منطقي بتاتا؛ في ظل نشرات الطقس اليومية التي تظهر الهضبة الإثيوبية مختبئة تحت جبال من السحب الثقيلة المنخفضة، وذلك منذ بداية شهر تموز/ يوليو الماضي. بل يمكن إرجاع تلك الفواقد لأسباب جيولوجية منها تلك الوديان العميقة التي تحدث عنها وزير الكهرباء الإثيوبي في آذار/ مارس أمام البرلمان، وأرجع إليها أسباب تعطل بناء سد النهضة لقرابة ثلاث سنوات. وهنا يمكن القول إنه ليس من المعتاد على حكومة السيسي أن تعلن أمورا حساسة مثل خبر فقدان خمسة مليارات متر مكعب) بكل هذه الشفافية للشعب المصري؛ ما لم تكن المصيبة "أشد وأمرّ". فالفقدان قد يكون أكبر من ذلك بكثير، ولكن وزارة الري مضطرة للاعتراف بنصف الحقائق.

تزامنت تصريحات وزارة الري المصرية بشأن فقدان الخمسة مليارات متر مكعب؛ مع تصريحات أخرى للمدير التنفيذي لسد النهضة، والذي صرح منذ أيام بأن السبب الأول في تعطل بناء سد النهضة هو سبب "جيولوجي"، وأنه إضرار للحفر في خرسانة السد لعلاج تلك المشاكل الجيولوجية، مؤكدا أن الأمور قد بدأت تسير في المسار السليم، وأن السد جاهز لتوليد الكهرباء خلال عام 2020. والصورة الملحقة تظهر كيف نفذ المدير التنفيذي لسد النهضة عملية الإصلاح الجيولوجي بأساسات سد النهضة من خلال نشر خرسانة واجهة السد، بحيث يتمكن من حفر نفق أفقي ثم رأسي بكتلة السد؛ بهدف الوصول لموضع المشكلة الجيولوجية وعلاجها بواسطة "الحقن".

وبالتالي، فيمكن القول إن تناقضات الموقف الإثيوبي على مدار السنوات الخمس الماضية لا يمكن تفسيرها بغير وجود نية "عدوانية" تجاه الدولة المصرية، وأنها لم ولن تسعي يوما لحل "عادل" لقضية سد النهضة، بل تسعى دائما لتحقيق سياسية "الأمر الواقع" من خلال المماطلة في مفاوضات السد، وعدم الوصول لأي نتيجة ملموسة تؤثر على معدلات البناء، وذلك مع التحرك بشكل مواز في اتجاه تشجيع الدول الأفريقية على توقيع اتفاقية عنتيبي؛ بهدف تجريد الدولة المصرية من كافة حقوقها المائية المنصوص عليها باتفاقيات دولية موثقة على مدار المئة عام الماضية.

ويمكن ربط تطورات سوء العلاقات الثنائية المصرية الإثيوبية بخبر تثبيت إثيوبيا لمنظومة الصواريخ الإسرائيلية "سبيدر" المضادة للطائرات؛ مع خبر الهزة الأرضية التي وقعت شرق القاهرة قبل منتصف ليل 15 تموز/ يوليو بدقائق، والتي كانت بقوة 2.3 درجة على مقياس ريختر، وكان سببها أمر صناعي إنساني، أي ليس جيولوجيا، وفقا لتصريحات الدكتور أحمد بدوي، رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية، والذي لم يوضح "طبيعة" هذا العمل "الصناعي الإنساني" الموجود على أرض الدولة المصرية، وتحديدا في شرق القاهرة، ويمكنه هز العاصمة بقوة 2.3 درجة لمدة 30 ثانية؛ غير أن تكون تجربة لقنبلة شديدة الانفجار مثل قنبلة "نصر 9000" التفريغية، والتي قام ببنائها المشير أبو غزالة عام 1981 تحديدا لمواجهة مستقبلية مع إثيوبيا لحماية الأمن المائي للدولة المصرية.

قد تكون هناك دلائل اليوم على أرض الواقع تظهر السيسي على كونه "حامي حمى الديار"، وأنه يتفاوض مع إثيوبيا بيد تحمل "أغصان الزيتون" واليد الأخرى تحمل البندقية. إلا أن الواقع والتاريخ قد لا يكون في جانبه. فالدولة المصرية وهي في عز عنفوانها العسكري فشلت في تحرير طائرة "لارنكا" بقبرص عام 1978 واستشهد فيها عشرات من رجال الصاعقة المصرية، فكيف سيكون الحال لو عزمت الدولة المصرية الدخول في صراع عسكري مع إثيوبيا بعد إسقاط اتفاقية مبادئ سد النهضة؛ من خلال رفض البرلمان المصري لها وتفويض السيسي في حماية أمن مصر المائي، وذلك بعد انتهاء فيضان عام 2019 بمنتصف تشرين الأول/ أكتوبر القادم؟ مع ملاحظة استعداد مصر بشكل جيد خلال الأعوام الثلاثة الماضية؛ بتوفير مخزون مائي ببحيرة ناصر يجعلها تأخذ أي قرار "صعب" دون التأثر مائيا من قبل السودان او إثيوبيا، حيث وصل منسوب بحيرة ناصر اليوم لمنسوب 178، أي منسوب فتح مفيض توشكي حتى قبل وصول أي نقطة من فيضان آب/ أغسطس 2019، وذلك بعدما نجحت وزارة الري في تقليص حجم الصرف السنوي من بحيرة ناصر بنسبة 20 في المئة، مع تقليص مساحات زراعة الأرز والقصب على مدار الأعوام الثلاثة الماضية.

أضف تعليقك