• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. عبد الله الكريوني

يمتلئ تاريخ الأمم بكثير من القصص المتشابهة، عن نهايات طغاة وسفاحين وقادة انقلابات استبدوا بالحكم، وأذاقوا شعوبهم العبر والويلات، ورغم اختلاف سياقات وتفاصيل انتهاكات وجرائم كل منهم، فإنّ نهاياتهم كانت دوما تحمل قدرا كبيرا من التشابه.

هذه الحقيقة يؤكدها ما وقع مع قادة الانقلابات والمستبدين في تركيا والأرجنتين وتشيلي ورومانيا وليبيا وغيرها من الدول، وهو ليس ببعيد عن طاغية مصر عبدالفتاح السيسي، الذي نفّذ "مذبحة رابعة" و"النهضة" في 14 أغسطس/ آب 2013، بحق رافضي الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي بنفسه، على الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013.

ولعل أبرز تلك القصص، ما وقع في جنازة قائد انقلاب 1980 في تركيا، الجنرال "كنعان إيفرين"، الذي رحل في 9 مايو/ أيار 2015، الجنازة التي شهدت العديد من المظاهر الاستثنائية، بينها رفع الأحذية عند مرور جسده، ومحاولات قذف الجنازة بها.

ورغم آلة البروباجندا الإعلامية العسكرية الضخمة التي رافقت حكمه لحوالي عقد من الزمن، والتي حاولت ترويج صورة قائد الانقلاب على أنه "مخلص تركيا" أو "منقذ تركيا"، فإن ذاكرة شعبه سلاح ماض، لم تنس جلّاديها، وأثبتت أن الأيام ليست كفيلة أبدا بدفن جرائم الطغاة.

ورغم أن "إيفرين" كان رئيس دولة سابق، فإن جنازته خرجت في ظل غياب كبار رجال الدولة، كما عزفت القوى السياسية والأحزاب عن حضورها، خاصة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، الذي قال: "إن يداه (إيفرين) ملطختان بالدماء.. ذلك الرجل تسبب في المعاناة لكثير من الأمهات".

ومن الأفلام الشهيرة التي تناولت هذه الحقبة، الفيلم التركي "Bizim Hikaye" أو "حكايتنا"، الذي روى وقائع انقلاب 1980، وهو مأخوذ من مذكرات كتبها أحد ضحايا الانقلاب الذين اعتقلوا في سجن "سينوب"، وراح ضحية التعذيب. 

ذلك الفيلم الذي يورد أحد نصوص هذه المذكرات: "ما حدث في 1980 وما بعد ذلك لم يكسر كبرياء أبي فحسب، وإنما كسر كبرياء قسم كبير من هذا البلد.. هذه ليست دعوى اليمين واليسار، هذه دعوانا جميعا، أولئك الذين تم سجنهم بالأدلة الكاذبة، والبلاغات المستندة إلى الشائعات.. توفي أبي قبل أن يستطيع إثبات براءته، لكنني واثق أنه لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يفقد إيمانه إطلاقا أننا سنرى هذه الأيام.. في فترة الانقلاب، باسم كل من أهين كبرياؤهم واعتبارهم، وباسم جميع مواطنينا الذين حكم عليهم ظلما، باسم العائلات التي مزقت، وباسم الذين ماتوا وحيدين في الزنزانات الباردة.. أريد رد اعتبار أبي". 

تداعيات ذلك الانقلاب الغاشم كانت مؤلمة ووخيمة، فقد جرى إعدام 50 شخصا واعتقال 600 ألف آخرين، فيما توفي العشرات في السجن نتيجة التعذيب، وفُقد أثر الكثير من المواطنين، ودخلت البلاد في حالة انقسام مجتمعي، وفشل اقتصادي وسياسي في جميع مناحي الحياة، استمر طوال حكم "إيفرين"، قبل أن تخطو تركيا رويدا رويدا في مسار التخلص من هيمنة الحكم العسكري.

وفي 18 يونيو/ حزيران 2014، أصدر القضاء التركي حكما تاريخيا على الجنرال "كنعان إيفرين" بالسجن مدى الحياة، بتهمة قلب نظام الحكم، وإنفاذ انقلاب عسكري دامٍ.

الحكم جاء بعد 34 عاما، من الانقلاب الذي وقع يوم 12 سبتمبر/ آب 1980، بقيادة "إيفرين" الذي كان يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة التركية، وبمساعدة القائد السابق لسلاح الجو "تحسين شاهين كايا" وكلاهما حكم عليه بالسجن الأبدي، رغم أن الجنرال التركي حاول تحصين نفسه عام 1982، كما يفعل معظم مجرمي الانقلابات، بوضعه مادة في الدستور تحصن قادة الجيش والضباط من المحاكمات.

ومن "إيفرين" في تركيا، إلى "خورخي فيديلا" في الأرجنتين، لم يختلف الوضع كثيرا، حيث قاد الجنرال الأرجنتيني انقلابا عسكريا قمعيا، في 24 مارس/ آذار 1976.

وللمفارقة وصف "فيديلا" انقلابه بـ"ثورة إعادة التنظيم الوطني" بحجة تخليص البلاد من الانهيار المُحتم الذي كانت ستتجه إليه في ظل حكم الرئيسة المعزولة "إيزابيل بيرون"، وحينها وصفت الأدبيات التاريخية الأرجنتينية الانقلاب بـ"الثورة الأرجنتينية"، كما يحدث مع السيسي في مصر الآن. 

ثم أغلق فيديلا مجلس الشيوخ وعزل أعضاء المحكمة العليا، وحظر الأحزاب السياسية والاتحادات السياسية والطلابية، ونفي أكثر من ثلاثمائة من أساتذة الجامعة خارج البلاد، وانتهكت الشرطة حرم جامعة "بوينس آيرس" فيما عُرف بـ"ليلة الهراوات الطويلة"، حيث تعدَّت على الطلبة والأساتذة واعتقلت بعضهم، وقام النظام الأمني بجريمة الإخفاء القسري لمئات من المواطنين، الذين لم يعرف لهم أثر.

وكانت المدرسة الميكانيكية البحرية أحد أهم معتقلات "فيديلا"، حيث يمارس التعذيب بشكل يومي، وشهدت مقتل أكثر من 5 آلاف سجين، بحسب تقارير حقوقية.

وفي سنوات معدودات، عانت البلاد من أزمة اقتصادية جعلتها تحتل المرتبة الأولى في العالم من ناحية نسبة التضخم، ورغم ذلك خصص الجنرال أكثر من 700 مليون دولار، من أجل تنظيم بطولة كأس العالم عام 1978.

هدمت الحكومة بيوت فقراء لا ترغب في أن يراها الضيوف، ونقلت آلافا منهم للعيش في الصحراء، ومن أجل إظهار البلاد الغارقة في الدماء بحلة مختلفة ورونق جديد، بنت الحكومة جدارا عازلا يخفي آثار المنازل التي هُجّر أهلها، عرف لاحقا بـ"جدار العار". 

تماما كما يفعل السيسي الآن ببناء مدينته الإدارية في مكان بعيد عن الفقراء والمطحونين، فهؤلاء لا بواكي لهم عند السيسي، كما عند كل الطغاة.

مُنِيَ نظام "فيديلا" بهزيمة ساحقة أمام بريطانيا في "حرب جزر الفوكلاند"، ومن نتائجها اهتزاز حكمه، وتقديم استقالته، ثم حوكم مع ثمانية عسكريين آخرين، وحكم عليه هو أيضا بالسجن مدى الحياة عام 1985 لاتهامه بارتكاب أعمال تعذيب وقتل وجرائم أخرى.

وفي مايو/ أيار عام 2013 مات خورخي فيديلا، عن عمر ناهز 87 عامًا، داخل الزنزانة التي كان يمضي فيها عقوبة السجن عن الجرائم التي ارتكبها في حق بلاده، جزاءً وفاقًا.

ونأتي إلى التجربة الأكثر اقترابًا من الحالة المصرية، هناك في أمريكا اللاتينية، وتحديدًا في دولة شيلي، التي شهدت تصاعدا للقوى اليسارية، وولادة تجربة ديمقراطية، ثم وقع الاختيار الشعبي على السناتور السلفادور الليندي، المرشح عن الجبهة الشعبية التي تمثل قوى اليسار، بعدما صدق البرلمان على فوزه في الاقتراع الرئاسي. 

اعتمد الليندي سياسة تهدف إلى إرساء قواعد جديدة، حيث أدخل تعديلات على الدستور لضمان الحرية الفردية وإحياء أحزاب المعارضة، وضمان حرية الصحافة واستقلال النقابات.

ورفض الليندي طلبا للديمقراطيين المسيحيين بالتنازل عن حقه في تعيين قادة القوات المسلحة وأن ينتقل هذا الحق إلى الجيش ذاتيا، وأكد الليندي تمسكه بجميع حقوق وصلاحيات رئيس الدولة بفوزه برئاسة الجمهورية لمدة 6 سنوات تنتهي عام 1976.

وأثارت سياسات الليندي موجة غضب في أوساط الدولة العميقة، ورجال الأعمال داخل تشيلي، بلغت ذروتها باغتيال "رينيه شنادر" القائد العام للجيش الذي كان يعد من أشد المؤمنين بإبقاء الجيش بعيدا عن السياسة، مما اضطر الحكومة لإعلان حالة الطوارئ في البلاد. 

لتبدأ قصة الجنرال "أوغستو بينوشيه"، الذي تمكن من الاستيلاء على السلطة في 11 سبتمبر/أيلول 1973، بعد أن حاصر القصر الرئاسي بدباباته مطالبا الرئيس الليندي بالاستسلام أو الهروب، لكن الرئيس المنتخب رفض الاستسلام، وارتدى الوشاح الرئاسي الذي ميز رؤساء تشيلي طوال قرنين من الزمان، وصمد في قصره إلى أن سقط قتيلا رافضا التخلي عن حقه الشرعي.

بعد قتل الرئيس الشرعي الليندي، أمر الجنرال بينوشيه بحل البرلمان، وعلق العمل بالدستور، وشكل من رجاله المقربين مجلسا عسكريا حاكما، في تشابه كبير لما حدث في مصر بعد الانقلاب العسكري.

ثم منع جنرال شيلي المنقلب الأحزاب اليسارية التي شكلت تحالف الليندي من أي نشاط سياسي، وطارد اليساريين في كل أنحاء البلاد، وقتل في هذه المواجهات أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وتعرض نحو 27 ألفا للسجن والتعذيب، أو النفي، وهربت خارج البلاد أعداد كبيرة من المعارضة، الذين طلبوا حق اللجوء السياسي.

هذه الانتهاكات التي ارتكبها بينوشيه، دفعت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، إلى نشر تقرير للمقارنة بين بينوشيه والسيسي، قالت فيه: إن "السيسي ليس بينوشيه: جنرال مصر أكثر وحشية وأقل إصلاحًا".

وبعد نضال طويل قادته المعارضة الشيلية، ومع حدوث بعض التغييرات في البيئة الدولية، خسر بينوشيه حكمه، بعد نجاح المعارضة في فرض استفتاء على تجديد مدة حكمه، ثم انتخابات رئاسية انتهت بهزيمته أمام "باتريشيو أيلوين".

وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 1998، طويت صفحة بينوشيه تماما، عقب توقيفه في بريطانيا، بناء على مذكرة اتهام إسبانية، وقد استعدت المحكمة العليا في تشيلي لمحاكمته بالفعل، إلا أن جهودا بذلت لتعطيل هذه المحاكمة حتى وفاته في ديسمبر/كانون الأول 2006. مات الرجل بعد أن تخلصت تشيلي من حقبته السوداء، مات غير مأسوف عليه، مات وقد رافق موته لعنات تتنزل عليه من أهل بلده ومن العالم أجمع!

ما تيسر ذكره ليست جميع السيناريوهات التي تنتهي بها قصص الطغاة والسفاحين، إنما غيض من فيض، فالتاريخ مليء بنهايات متشابهة لأمثال هؤلاء، وما حدث مع طاغية رومانيا شاوشيسكو وزوجته عام 1989 أو ما حدث مع طاغية ليبيا معمر القذافي ليس منهم ببعيد، لو يعقلون.

مآلات هؤلاء الحكام متشابهة السياقات، في كل شيء، حتي في كونه ينعدم بينهم من يستوعب دروس التاريخ، فالشعوب التي تتطلع إلى معاني الحرية والكرامة، لا تتراجع وإن هزمت حينا، وتجرعت كؤوس المر والحنظل، فمذاق الحرية يستحق التضحية، أما المستبدين ومن على شاكلة السيسي وفيديلا وبينوشيه وإيفرين وشاوشيسكو، تطاردهم آلام الضحايا في كل مكان، وتلاحقهم لعنات شعوبهم حتى بعد أن تبتلعهم القبور ويواري التراب سوءة وجوههم الكالحة عن أبصار الشعوب. 

وهنا، بعد مرور ست سنوات على "مذبحة رابعة" الأشد في تاريخ مصر الحديث، نتذكر تلك "المذبحة"، التي نعيشها بكل ما تحمله الكلمة من معنى آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من المعتقلين، ومئات المفقودين الذين غيبت مصائرهم، وأرقام ومآسي أخرى لا تحصى في "مأساة القرن المصرية".

نتذكر الطغاة الذين تشابهت مسالكهم، وتشابهت قلوبهم، وعادة ما تتشابه مصائرهم، حينما يدفعون ثمن الدم والدموع، بعد أن ظنوا -وظن من حولهم- أن القصة قد انتهت، وأن البلاد والعباد والتاريخ قد دان لهم، فإذا صيحات التحرر تقض مضاجعهم، وتحطم أحلامهم وأمانيهم -ولو بعد حين- وعندها فقط يدركون أن للقصة بقية...

أضف تعليقك