بقلم: الكاتبة الفلسطينية زهرة خدرج
سيد قطب.. صاحب الفكر الخطير الذي يرفض العبودية لغير الله، والخضوع لغير الخالق.. يطالب بحرية البشر بطريقة جديدة لم يألفها دعاة الحريات والتنوير والفكر الشرقي أو الغربي.. الثائر المتمرد على الخنوع الذي ما يزال طغاة الأمة يجرِّمونه حتى يومنا هذا.. لأنه يهدد بتقويض عروشهم، حتى وهو تحت الثرى.. نراهم يمنعون كتبه من التداول تارة، ويلصقون تهماً جديدة تتعلق بفكره تارة أخرى، ويشيطنون أفكاره ويحرِّضون عليه ويبذلون ما بوسعهم لتشويه صورته.. فيصفونه بصاحب الفكر التكفيري، والمتطرف، والمنغلق... الخ.
وبرغم انقضاء ما يزيد على النصف قرن من الزمان على انتقاله لخالقه، إلا أن سيرته لم تندثر على الألسن، ووهج فكره لم يخب حتى الآن..
ـ "إن أفكارنا وكلماتنا تظل عرائساً من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء". حياة قصيرة عاش شطرها نزيل السجون العسكرية والزنازين ومراكز التعذيب.. كلماته بقيت حية كما أراد لها أن تبقى، افتدى مبادئه وكلماته التي آمن بها بروحه.. فسار إلى مشنقته بشموخ وثقة أعزته وجعلته قوياً، وجعلت قاتليه هم الضعفاء..
اقتادوه إلى المشنقة، فسار بعز وثبات، وضع حبل المشنقة بنفسه على عنقه.. اقترب منه شيخ (كما جرت العادة) ليلقنه "لا إله إلا الله" فنظر إليه قطب قائلاً: حتى أنت جئت تكمل المسرحية؟ يا أخي، نحن نُعدم بسبب "لا إله إلا الله"، وأنت تأكل الخبز بــ "لا إله إلا الله"!
أدرك قطب منذ مرحلة مبكرة من حياته أن أصحاب المبادئ العليا مثله لا بُد وأن يُبتلوا، ويُمتحن إيمانهم. ففي حادثة كتب عنها أحمد عبد الغفور عطار في مجلة "كلمة الحق" العدد الثاني الصادر في أيار (مايو) 1967 (أي بعد ما يقارب عام من استشهاد سيد قطب) ما يلي:
"في الحفل التكريمي الذي أقامه ضباط ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 لسيد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والدبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في آب (أغسطس) 1952 في مقر نادي الضباط في منطقة الزمالك، وقف سيد قطب قائلاً: إن الثورة قد بدأت حقا، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام، لقد كنت في عهد الملكية، مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيأ للسجن أيضاً، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل". (وكان عبد الغفور عطار قد حضر الحفل المذكور).
ويضيف الكاتب: "فوقف عبد الناصر وقال بصوته الجهوري: أخي الكبير سيد.. والله لن يصلوا إليك إلا على جثثنا".
وكتب الدكتور صلاح الخالدي في كتابه "سيد قطب: الأديب والناقد، والداعية المجاهد، والمفسر الرائد" الصادر عن دار القلم في دمشق، أن الأديب الحجازي (ومؤسس صحيفة عكاظ) أحمد عبد الغفور عطار، يقول: "بلغ من احترام الثورة بعد قيامها لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضل صنيعه، أن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثير من الأمور، حتى إنه كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادة الثورة أحياناً، وكانوا يترددون على منزله في حلوان، بل إنه أول من طرح كلمة ثورة بدلاً من انقلاب لحركة 23 تموز (يوليو)".
ويقول الدكتور الخالدي أيضاً: "إن مجلس الثورة قد قرر أن يسند لسيد قطب منصب وزير المعارف، إلا أنه رفض، ورجاه أن يتولى منصب مدير عام الإذاعة فاعتذر.. وقبل بعد ذلك منصب السكرتير العام لهيئة التحرير ليكون بذلك الرجل الثاني في الدولة، ولبث فيها شهراً واحداً، حيث دبت الخلافات بين سيد قطب وبين رجالات الثورة وعلى رأسهم عبد الناصر، فاستقال من هيئة التحرير".
اعتزل سيد قطب المناصب الرفيعة بعد الثورة. خمسة أشهر فقط، كانت هي عمر علاقته مع الضباط الأحرار.. فحين شاهد بأم عينه ما لا يعجبه وما يتعارض مع مبادئه، ولى وجهه عن الثورة ورجالها، ومضى يتفرغ للعمل لأجل الحق الذي رآه بعينه مثل فلق الفجر وآمن به ولأجله أيضاً سيق للمشنقة.
"لا بد وأن توجد طليعة إسلامية تقود البشرية إلى الخلاص"، إلا أن العسكر لاحقوه، وبعد عامين من عبارة جمال عبد الناصر: "والله لن يصلوا إليك إلا على جثثنا"، سُجن سيد قطب للمرة الأولى، وخرج بعد شهرين، وسُجن مرة أخرى بعد ذلك لتُلصق به تهمة "تكوين تنظيم مسلح لاغتيال جمال عبد الناصر".
وتصوروا معي: صاحب المشاعر المرهفة، والجسد الهش، والبنية الضعيفة، وصاحب القلم الفذ، والفكر الإبداعي النير.. يُـتهم بحمل بندقية وتكوين تنظيم مسلح لاغتيال صديق الأمس.. فيا للعجب!!.
ويعلم قائد العسكر آنذاك علم اليقين أن سيد قطب بريء من تلك التهمة براءة الذئب من دم يوسف.. ولكنه يعلم أيضا حجم الخطر الذي يشكِّله سيد قطب بفكره عليه.. فهو بفكره والذي لا يمكن تطويعه سيقلب الموازين التي يسعى جمال عبد الناصر إلى تثبت كفَّتِها لصالحه وصالح المبادئ التي فرضها عليه المنصب الجديد..
فالدين يُستفتى في الصلاة والصيام والحج، والحيض، والميراث، والخلافات الزوجية.. أما أن يُستفتى في الأوضاع السياسية، والاقتصاد، والمشكلات القومية والأممية.. فهذا ما لا يمكن السكوت عنه.. أليس لله ما لله، ولقيصر ما لقيصر؟؟ فكيف سيحشر سيد قطب هذا أحكام الله على ممتلكات قيصر وسلطانه وأحكامه؟؟
فكان الخيار الوحيد أمام الطاغية هو السجن والتعذيب والإهانة، والحجب لصاحب الفكر وفكره الذي يحمل في طياته خطراً يفوق خطر أسلحة الدمار الشامل.. إذن هي المشنقة في نهاية الامر، انتهت الخيارات الأخرى.. عساه يندثر وفكره إذا غيبه الثرى..
ولكن هيهات هيهات.. فأصحاب الدعوات لا يهزمهم الأذى، ولا ينهي دعواتهم.. ألم يكن سيد قطب يتصف بصفات ثلاث هي سمات المصلحين وقادة الدعوات كما وصفه من حوله ومنهم طه حسين؟ ألم يقل عنه طه حسين: في سيد خصلتان، هما المثالية والعناد"، وقال أيضاً: إن سيد انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة، وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام".
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى، أبداً *** وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي *** بالنار ضع عنقي على السكين
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي *** وربي حافظي ومعيني
سأظل معتصماً بحبل عقيدتي *** وأموت مبتسماً ليحيا ديني
ملحوظة: كيف لي أن أدع شهر آب (أغسطس) يمر هكذا من دون أن أكتب عنك، وأتذكرك بكلمات الوفاء والعرفان، وأدعو لك بالرحمة والقبول؟ ذهبت إلى جوار ربك، وبقيت كلماتك حية تبلغ عنك ما كنت تتمنى له أن يصل إلى الأجيال القادمة.. لم تستطع مشانق الطغاة وبنادقهم أن تصل إليها وتغتالها كما اغتالتك..
رحمك الله أيها الأديب والمفكر والكاتب المبدع "سيد قطب" وعلى روحك ألف رحمة وسلام..
أضف تعليقك