بقلم: وائل قنديل
لم يقل لنا أحد حتى الآن من هؤلاء الذين يطلبون الصفح تحت تأثير التعذيب.
لم ينشر أحد اسمًا واحدًا مما يقال إنها قائمة طويلة، اختارت طريق المراجعات والتوبة والاعتذار عن طريق آخر سلكته، وضربت فيه المثل الأروع للنضال والدفاع عن الحق والثورة، فاستحق أصحابه أن نقول عنهم "أسيادنا المعتقلون".
لا أحد يرفض خروجهم من جحيم التعذيب، وليس لمخلوقٍ أن يزايد عليهم، لكن يبقى السؤال: من هم، هؤلاء الذين قيل إنهم صاغوا المبادرة التفصيلية بإسهاب، وأرسلوها إلى الخارج، لكي يقدّمها إلى الداخل، الذي هم داخل زنازينه.
كل ما نعرفه حتى الآن أن ما توصف بالمبادرة ظهرت لها مبادرة تكميلية، تقول خمسة آلاف دولار عن كل سجين، ليتشكّل جيش من السماسرة والمدافعين عن منطق تحرير الرقاب بالأموال، يعقرون كل من يسأل عن أصل وفصل ما تسمّى المبادرة ومصدرها والقائمين عليها، ويرفسون ببذاءة كل من يناقش، ويبتزّون بوقاحة كل من يبدي تحفظًا على العرض التجاري المحض، يدخلون إلى المشهد، وهم يمضغون برقاعة، ليست غريبةً عنهم، حكاية الهاربين المرفهين العائمين في هناءة المهجر الوثير الذين يرفضون خروج السجناء والمعتقلين، كي لا تبور تجارتهم.. إلى آخر هذا الهراء العاهر المتدفق من أفواه، كنا نحترم بعضها، وندرك، منذ البداية، أن حضور بعضها الآخر في المشهد كان، منذ البداية، أشبه بانتشار الفطريات والبكتيريا.
قلنا، بدلًا من المرّة عشرًا، أن أحدًا ليس من حقه أن يقرّر مصير السجناء والمعتقلين، نيابة عنهم، وأن لهم مطلق الحق والحرية في المراجعة، أو حتى التراجع، في ظل أوضاع سياسية هي الأسوأ، على مستوى المعارضة والسلطة معًا، وظروف سجن واعتقال هي الأبشع في تاريخ الاستبداد والقهر في العالم كله.
لم نصادر حق هؤلاء الأبطال الصامدين في إعلان اليأس وطلب الغوث، وبما أنهم موضع احترام وتقدير الجميع في كل الأحوال، فلا معنى أبدًا لإخفاء أسمائهم، وطمس هوياتهم، في منطوق المبادرات المطروحة في السوق، ولا مبرّر على الإطلاق لاستمرار صيغة المبنى للمجهول عند الحديث عن المبادرة التي يراها المدافعون عنها أبدع ما يمكن أن يكون، وأروع منتجات العقل السياسي المستجيب لمقتضى الواقع والمنطق. ولذا يصبح غريبًا للغاية ألا نعرف أبًا أو أمًا لهذا المولود الجميل، بعين المتحمّسين له.
الصبية والشيوخ الذين يصنعون جلبة وزحامًا على باب سوق المبادرات جاهزون بقائمة موحدة من الشتائم والاتهامات، لكل من يشكك في أصلها وفصلها، أو يطلب دليلًا عقليًا أو ماديًا، على أنها نابعة من أعماق السجون فعلًا، ويدهشك هنا أنهم كانوا، طوال الوقت، وعن حق، من رافضي التسليم بسلامة وصحة محتوى الاعترافات المنسوبة للسجناء والمعتقلين، كونها منتزعة منهم تحت التعذيب، بكل صوره وأساليبه، لكنهم الآن لا يتورّعون عن التسافل والتطاول على من يستعمل المنطق ذاته فيما يخص محتوى ما يقال إنها مبادراتٌ من الواقعين تحت التعذيب الرهيب بالسجون.
تريدون منا أن نسلم معكم بأن هذه المبادرة العظيمة، برأيكم، ليست موضع شك، ولا يأتيها الباطل أبدًا.. حسنًا، هاتوا برهانكم على انتسابها لمن هم داخل السجون، وانشروا أسماء الذين صاغوها وكتبوها والموقعين عليها، وأظن أنه لا خطورة على الإطلاق في ذلك، خصوصًا وأن معظم التحفظات والانتقادات تنطلق من أنها مبادرة تخدم النظام، وتهين السجناء والمعتقلين، وتحقق لأهل السلطة المغتصبة مبتغاهم في انتزاع اعترافٍ من سجنائهم بأنهم ضحايا لمن قادوهم إلى التظاهر والمعارضة والاحتجاج، وأوهموهم بأن في ذلك ثورة.
ما الذي يمنع أن يرفع الستار وتطرح المبادرة، بأسمائها وأهدافها النهائية، بين طرفيْها الأصليين، السجين والسجان.. الرهينة والخاطف، من دون إقحام أطراف أخرى، متهمة بأنها تنتفع من الجمود والتكلس، وتتربّح من مأساة السجناء والمعتقلين، ولا تريد لها أن تنتهي؟ ثم من الذي سيتكفل بسداد خمسة آلاف دولار عن كل محبوس، من بين نحو ستين ألفًا على الأقل من السجناء والمعتقلين، لتصل قيمة الصفقة بالحد الأدنى إلى ما يقرب من ربع مليار دولار؟ هل ستقوم بالمهمة، منظمة أم حكومة دولة، أم أهل الخير من مختلف بقاع العالم؟
قدّموا دليلًا واحدًا على أنها مبادرة حقيقية للمراجعة، وليست مضاربة في بورصة السياسة المصرية، يقوم بها سماسرة يختبئون خلف القوائم المجهلة، زاعمين أنهم يريدون إنقاذ السجناء، بينما هم في الواقع يصفعونهم ويهينونهم بهذا الهراء على نحو أعنف من بطش النظام.
بعضهم يستدعي من تاريخ جماعته، وآخرون يلوون عنق النصوص، لفرض هذه الحلول الصفيقة للأزمة التي تضرب بجذورها في عمق المعيار الأخلاقي، كما تمتد في تربة الحالة السياسية، فيبرّرون هذه الصيغة المهينة بفقه المضطر والملجأ، وأنه عند الهلاك لا بأس من أكل الميتة والجيفة، للحفاظ على الحياة، وهذا مفهومٌ ولا اعتراض عليه، ولا مشكلة فيه، ولن نلوم أحدًا إن فعلها، حلًا أخيرًا قبل أن يشرف على الهلاك، ولا يعيب أحدًا أن يعلن أنه لم يعد يستطيع الاحتمال وينجو بنفسه.
المشكلة هي استغلال المحنة لتقنين تجارة لحوم الجيفة، وفرضها مشروعًا للاستثمار والمكسب السريع طوال الوقت.
المشكلة أن موضوع المعتقلين تحول إلى ساحة حربٍ داخلية بين مجموعاتٍ تتعارك في كتلة الإسلام السياسي، والحقيقة أننا لسنا معنيين بعركة القيادة المنصوبة بين أجيال متطاحنة من الإخوان والإكس إخوان، لا يرون في زوبعة المعتقلين أكثر من مناسبة لتصفية حسابات ضيقة، تخص أصحابها وحدهم، ومن السخف فرضها موضوع الساعة أو القضية الكبرى في مصر.
أضف تعليقك