كتب: د. علي الصلابي
يُعتبر حدث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حدثا حاسما ومفصلياً ليس في التاريخ الإسلامي فحسب، وإنما في التاريخ الإنساني أجمع، فقد كان لهجرة النبي الأعظم تداعيات كبرى على الدعوة المحمدية التي جاءت تحمل في طياتها قيماً روحانية سامية، جعلت الحضارة الإسلامية تتبوأ مكانة رفيعة بين الحضارات.
إنَّ الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيدٌ، وإعدادٌ، وتخطيط من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بتقدير الله تعالى، وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتِّجاهين: إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجَرِ إليه.
أولاً: التَّمهيد، والإعداد لها:
1 - إعداد المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهةً، أو رحلةً يروِّح فيها الإنسان عن نفسه؛ ولكنَّها مغادرةُ الأرض، والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصَّداقة والمودَّة، وأسباب الرِّزق، والتَّخلِّي عن كلِّ ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهدٍ كبيرٍ، حتَّى وصل المهاجرون إلى قناعةٍ كاملةٍ بهذه الهجرة، ومن تلك الوسائل:
- التَّربية الإيمانيَّة العميقة الَّتي تحدَّثنا عنها في الصَّفحات الماضية.
- الاضطهاد الَّذي أصاب المؤمنين، حتَّى وصلوا إلى قناعةٍ كاملةٍ بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
- تناول القرآن المكِّيِّ التَّنويه بالهجرة، ولفت النَّظر إلى أنَّ أرض الله واسعةٌ. قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10] .
ثمَّ تلا ذلك نزولُ سورة الكهف، والَّتي تحدَّثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم، وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرَّت صورةٌ من صور الإيمان في نفوس الصَّحابة، وهي ترك الأهل، والوطن من أجل العقيدة.
ثم تلا ذلك آيات صريحةٌ تتحدَّث عن الهجرة في سورة النَّحل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 41 - 42] .
وفي أواخر السُّورة يؤكِّد المعنى مرَّةً أخرى بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]. وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عمليّاً على ترك الأهل، والوطن.
2 - الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى؛ وإنَّما أخَّر ذلك لأكثر من عامين؛ حتَّى تأكَّد من وجود القاعدة الواسعة نسبيّاً، كما كان في الوقت نفسه يتمُّ إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصَّةً بعد انتقال مصعب رضي الله عنه إلى المدينة.
وقد تأكَّد: أنَّ الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليهم، كما كانت المناقشات الَّتي جرت في بيعة العقبة الثَّانية، تؤكِّد الحرص الشَّديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنَّبي صلى الله عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل مِنًى ممَّن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم؛ لو أذن الرَّسول الكريم بذلك، ولكنَّه قال لهم: «لم نؤمر بذلك».
وهكذا تمَّ الإعداد لأهل يثرب؛ ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين، وما يترتَّب على ذلك من تَبِعَات.
ثانياً: تأمُّلاتٍ في بعض آيات سورة العنكبوت:
تعتبر سورة العنكبوت من أواخر ما نزل في المرحلة المكِّيَّة، وتحدَّثت السُّورة عن سنَّة الله في الدَّعوات، وهي سنُّة الابتلاء، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت: 1 - 4]
وفي سورة العنكبوت ثلاثةُ أمورٍ تلفت النَّظر، وهي:
1 - ذِكْرُ كلمة المنافقين، ومن المعلوم: أنَّ النِّفاق لا يكون إلا عندما تكون الغلبة للمسلمين؛ حيث يخشى بعضُ النَّاس على مصالحهم، فيظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، ومن المعلوم: أنَّ المجتمع في مكَّةَ كان جاهليّاً، وكانت القوَّة والغلبة لأهل الشِّرك، فما مناسبة مجيء المنافقين في هذه السُّورة، في قوله تعالى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 11]، وهي سورةٌ مكِّيَّةٌ كما قلنا: فهل كانت الآمال قد قويت عند الفئة المؤمنة بحيث تراءى لهم الفرج، والنَّصر قاب قوسين أو أدنى؟ أم أنَّ هذه الآية مدنيَّةٌ وضعت في سورةٍ مكِّيَّةٍ؛ لأنَّ النِّفاق لم يحِنْ وقتُه بعدُ، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسِّرين؟.
2 - ورد الأمر بمجادلة أهل الكتاب بالَّتي هي أحسن، وكأنَّه تهيئةٌ للنُّفوس للمرحلة القادمة؛ الَّتي سيكون بين المسلمين وبين أهل الكتاب فيها احتكاكٌ، فلا يكونون البادئين بالشدَّة، فيأتي التَّنبيه على هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 46 - 47] .
3 - تهيئة النُّفوس للهجرة في أرض الله الواسعة، وربما كانت المدينة قد بدأت تستقبل المهاجرين من المؤمنين بعد بيعة العقبة الأولى، ومهما كان الأمر، وأنَّى كان وقت نزول سورة العنكبوت؛ فإنَّ الإشارة واضحةٌ، والحثَّ على الهجرة - أيضاً - واضحٌ ببيان تكفُّل اللهِ الرِّزق للعباد؛ في أيِّ أرضٍ، وفي أيِّ زمانٍ. قال تعالى: ﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].
هذه الآية الكريمة نزلت في تحريض المؤمنين الَّذين كانوا بمكَّة على الهجرة؛ فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه، وأنَّ البقاء في بقعةٍ على أذى الكفار ليس بصوابٍ؛ بل الصَّواب أن يُتلمَّس عبادةُ الله في أرضه مع صالحي عباده؛ أي: إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها، فهاجروا إلى المدينة؛ فإنَّها واسعةٌ لإظهار التَّوحيد بها، ثمَّ أخبرهم تعالى: أنَّ الرِّزق لا يختصُّ ببقعةٍ معيَّنةٍ؛ بل رزقه تعالى عامٌّ لخلقه حيث كانوا، وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر، وأوسع، وأطيب، فإنَّهم بعد قليل صاروا حكَّام البلاد في سائر الأقطار، والأمصار، ولهذا قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَآبَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60] .
كما ذكَّرهم تعالى: أنَّ كلَّ نفسٍ واجدةٌ مرارة الموت، فقال جلَّ شأنه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 57]. أي: واجدةٌ مرارته، وكربه، كما يجد الذَّائق طعم المذوق، ومعناه: إنَّكم ميِّتون، فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته؛ لم يكن له بُـدٌّ من التزوُّد لها، والاستعداد بجهده، وهذا تشجيعٌ للنَّفس على الهجرة؛ لأنَّ النَّفس إذا تيقَّنت بالموت؛ سهُلَ عليها مفارقةُ وطنها.
قال ابن كثير في الآية: أي: أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله؛ فهو خيرٌ لكم، فإنَّ الموت لابدَّ منه، ولا محيد عنه، ثمَّ إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعاً له؛ جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتمَّ الثَّواب، ولهذا قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الآنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت 58 - 59]، أي: صبروا على دينهم، وهاجروا إلى الله، ونابزوا الأعداء، وفارقوا الأهل، والأقرباء؛ ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده، وتصديق موعوده، ولم يتوكَّلوا في جميع ذلك إلا على الله.
ثالثاً: طلائع المهاجرين:
لـمَّا بايعتْ طلائعُ الخير، ومواكبُ النُّور من أهل يثرب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، والدِّفاع عنه؛ ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاءً للمسلمين، فأذن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة، إقامة الدَّولة الإسلاميَّة؛ الَّتي تحمل الدَّعوة، وتجاهد في سبيلها؛ حتَّى لا تكون فتنةٌ، ويكون الدِّين كلُّه لله، وكان التَّوجيه إلى المدينة من الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا صدر السَّبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ طابت نفسه، وقد جعل الله له منعةً، وقوماً أهل حربٍ، وعدَّةٍ، ونجدةٍ، وجعل البلاء يشتدَّ على المسلمين من المشركين؛ لما يعلمون من الخروج، فضيَّقوا على أصحابه، وتعبَّثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشَّتم، والأذى، فشكا ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنـوه في الهجرة، فقال: « قـد أُريت دار هجرتكم، أريت سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين - وهما الحرَّتان - ولو كانت السَّراة أرض نخلٍ، وسباخٍ؛ لقلت: هي، هي» [البخاري (2297) والبيهقي في الدلائل (2/459)] ..
ثمَّ مكث أياماً، ثمَّ خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» فجعل القوم يتَّجهون، ويتوافقون، ويتواسون، ويخرجون، ويخفون ذلك، فكان أوَّلَ من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو سلمة بن عبد الأسد، ثمَّ قدم بعده عامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمَة، فهي أوَّل ظعينةٍ قدمت المدينة، ثمَّ قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآووهم، ونصروهم، وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حُذيفة، يؤمُّ المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فلـمَّا خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَتْ قريشٌ عليهم، وحربوا، واغتاظوا على مَنْ خرج من فتيانهم، وكان نفرٌ من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة، ثمَّ رجعوا إلى المدينة، فلـمَّا قدم أوَّل مَنْ هاجر إلى قُباء؛ خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة، حتَّى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريُّون، وهم: ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة، والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة، فلم يبقَ بمكَّة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر، وعليٌّ، أو مفتونٌ، أو مريضٌ، أو ضعيفٌ عن الخروج. [ابن سعد (1/325)] .
أضف تعليقك