بقلم: خليل العناني
قلَبَ المقاول والفنان محمد علي الطاولة على الجنرال عبد الفتاح السيسي ونظامه، ووضعه، للمرّة الأولى منذ انقلاب 3 يوليو 2013، في موقف المدافع، وذلك بعدما ظل يهاجم معارضيه ستة أعوام، فقد باغت علي السيسي من حيث لا يدري، وفجّر في وجهه فضائح مالية ووقائع فساد توّرط فيها السيسي وعائلته وبعض رجاله المقرّبين، فضلاً عن إهدارهم مليارات الجنيهات على فلل وقصور ومشاريع غير ذات جدوى اقتصادية، مثل مشروع تفريعة قناة السويس الذي التهم ما يقرب من 64 مليار جنيه من مدّخرات المصريين، من دون أن يعود بأية أرباح على البلاد والعباد.
مفاجآت المقاول المدوّية هزّت عرش الجنرال الفاسد، وأربكت أجهزته، وحيّرت دائرة نفوذه الضيقة، ووضعتهم جميعاً في موقفٍ لا يحسدون عليه، فكل ليلة يطلّ عليهم المقاول المنشق من كاميرا تليفون محمول، ليلدغهم بمفاجآتٍ تحمل وقائع وأرقام وحقائق يصعب تكذيبها. وفي المجمل، لم يقل محمد علي جديداً عن انخراط الجيش في إدارة أنشطة اقتصادية مدنية، بعيداً عن دوره الأصيل في الدفاع وحماية الأمن القومي للبلاد. ولكنه كشف بالأرقام والأدلة عن حالات فساد صارخة، تجري في قمة هرم المؤسسة العسكرية، من خلال إدارة الهيئة الهندسية المسؤولة عن المشاريع التي يقوم بها الجيش في القطاع المدني. كما أنه كشف، لأول مرة، عن حجم الفساد المالي والنهب المنظّم لأموال الشعب المصري، من أجل الانفاق على احتياجات الجنرال الرئيس وعائلته وحاشيته ورغباتهم. وكشف كيف يتم إسناد المشاريع الاقتصادية والمعمارية وتوزيعها على الأقارب والأصدقاء، وفق علاقات الواسطة والمحسوبية والشللية، وليس العدالة والكفاءة. وقد قرْن محمد علي حديثه بالدلائل والأرقام والصور التي تكشف حجم الفساد الذي تمارسه الطغمة التي تحكم البلاد. ولذا ليس غريبا أن ينتظر ملايين المصريين والعرب أحاديث المقاول محمد علي وفيديوهاته ولدغاته للسيسي ورجاله.
ارتباك السيسي ورجاله وأجهزته في مواجهة سلسلة الفضائح التي ألقاها محمد علي في وجوههم لم تترك لهم وقتا كثيرا ليفكروا في كيفية مواجهتها وتفنيدها. تجاهلوها في البداية، ولاحقاً أطلقوا أذرعتهم وأبواقهم الإعلامية عليه، ثم ألبّوا عائلته (والده وأخوه) عليه، ثم دفعوا ببعض شبابهم لعمل فيديوهات مشابهة في الشكل، فارغة المضمون، للرد على اتهامات محمد علي. ولمّا فشلوا فشلاً ذريعا، قرّر الجنرال أن يخرج ليرّد، على الرغم من أن أجهزته، وباعترافه، ضغطت عليه ونصحته بألا يفعل.
أمر السيسي رجاله بتنظيم مؤتمر جديد للشباب الذين جيء بهم على عجل، ولم ينتظر قليلاً فطلب الكلمة، وبدأ في الرد على محمد علي. وكان الرد كارثياً، حيث أكدّ كل ما قاله المقاول الفنان عن القصور الرئاسية في العاصمة الجديدة ومدينة العلمين، وكذلك عن تأجيل مراسم دفن والدته من أجل الاحتفال بافتتاح مشروع قناة السويس... إلخ. ولربما كان من الأفضل للجنرال أن يستمع لنصيحة أجهزته ورجاله، وأن يتجاهل اتهامات الفنان. ولكنه الغرور والإحساس المتضخم بالذات الذي دفعه إلى منازلة شخصٍ لا يملك سوى هاتف نقّال وكاميرا، ولكنه يقول الحقيقة، باعتراف السيسي نفسه!
لم يكن لأحد أن يتوقع أن تأتي أول ضربة حقيقية موجعة للسيسي ونظامه من أحد الشباب المغمورين الذين عملوا أكثر من عقد في مشاريع اقتصادية وسكنية ومعمارية مع القوات المسلحة. ولم يكن لأحد أن يتخيّل أن يأتي الانشقاق على السيسي ونظامه من داخل منظومة الفساد التي يرعاها ويحمي رجالها، وعلى لسان "واحد منهم". ولعل هذا مصدر الارتباك والتوتر الذي أحدثته فيديوهات محمد علي وتصريحاته، والتي يبدو أمامها السيسي عاجزاً، ولا يملك أية أسلحة حقيقية لمواجهتها، فالمقاول الفنان يأتي من خارج الفضاء السياسي تماماً، وليس له أية علاقة بالأحزاب والجماعات والحركات الاجتماعية، وهو بالكاد يعرف أسماء بعض القوى السياسية. يدّل على ذلك بساطة طرحه ولغته. بيد أن ما يقوله يحمل منطقا ومصداقيةً كثيريْن لدى رجل الشارع العادي.
ولعل هذا هو مصدر خطورته على السيسي ونظامه، فاستراتيجية السيسي في مواجهة المعارضين طوال السنوات الماضية كانت سهلة وبسيطة، وهي التشويه والتخويف والتخوين. ولكنها لا تنطبق على المقاول محمد علي الذي على الرغم من إدراكه عواقب ما أقدم عليها. لم يخف ولم يتراجع عن فضح فساد السيسي ورجاله، ولم يدفن رأسه في الرمال، كما فعل مقاولون أخرون، مثل نجيب ساويرس وهشام طلعت مصطفى وغيرهما. كما أن عدم انتمائه السياسي والأيديولوجي جعله رمزاً يتجاوز الأحزاب والجماعات السياسية، ووفّر له رصيدا بشكل سريع، وأعطاه مصداقية كبيرة، خصوصا بعد اعتراف السيسي الصريح بما قاله محمد علي. وهو ما لا يتوفر لمعارضين سياسيين كثيرين تم اغتيالهم معنوياً وسياسياً أولاً بأول في إعلام السيسي، حتى لا يلتف حولهم الشعب.
ومهما يكن، فقد حرّكت فيديوهات محمد علي المياه الراكدة في بحر السياسة في مصر، وألقت حجرا كبيرا فيها. وربما يشجّع ما فعله محمد علي أخرين على الانشقاق عن النظام وعصبته الفاسدة، قبل أن يغرق المركب بهم. وحتى يحدُث هذا سيظل المقاول يهاجم، والجنرال يدافع، والشعب المصري بينهما يتفرّج، ولربما يتحرّك حين تزداد سخونة المباراة.
أضف تعليقك