• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: ساري عربي

يتسم المشهد المصري بالغموض والحيرة، مما يمنح الحذرَ في قراءته الكثير من الوجاهة، ويجعل الاحتمالات الممكنة متعددة، باستثناء تلك الأماني التي صوّرها أصحابها واقعا قائما فتوهّموا أنّ السيسي قد خُلع وانتهى أمره وبالرغم مما في هذه التحليلات الرغبوية من خطل، إلا أنّ انتشارها وشيوعها، وتصديق الكثير من الناس لها، يكشف عن الشوق الجارف للتخلّص من هذا الطاغية الذي وضع بصماته على كل عناوين الإفساد والخراب، من مصادرة حرّيات الناس، إلى إفقارهم وتجويعهم، إلى نهب ثرواتهم ومواردهم واحتكارها، إلى قتلهم واستباحة دمائهم، إلى بيع البلد وتسليم مفاتيحها كاملة للعدوّ، إلى إشاعة الدجل والخراب والسواد والشؤم في الإقليم كلّه.

وفي حين يمتاز الإقليم بمناطقه كلّها بالسيولة التي تتمدد وتأخذ أشكالا جديدة وعلى نحو متزامن، فلا استقرار في ليبيا ولا اليمن ولا سوريا، وتتصاعد المخاوف في الخليج بضفتيه وفي العراق، فإنّ مصر ومنذ أن تمكّن نظام السيسي من قمع الحركة الاحتجاجية التي أعقبت مذبحة رابعة، ثمّ تفكيك قوى الفعل الجماهيري كلّها، وتجريف الحالة السياسية، وتحطيم الحركة الوطنية.. فإنّ مصر بدت وكأنّ الأمر قد استقرّ نهائيّا، وهو أمر في الظاهر مخادع للغاية، إذ الاستقرار في الباطن غير مضمون بالنظر إلى الفشل السياسي لنظامه، واحتمالات احتكاكه من الداخل، وما يتصل بذلك من أزمات اقتصادية، ثم الأهمّ، وهو ارتباط نظامه بقوى إقليمية ودولية غير مستقرّة، وهو ما قد ينعكس عليه.

مصر بدت وكأنّ الأمر قد استقرّ نهائيّا، وهو أمر في الظاهر مخادع للغاية، إذ الاستقرار في الباطن غير مضمون بالنظر إلى الفشل السياسي لنظامه، واحتمالات احتكاكه من الداخل، وما يتصل بذلك من أزمات اقتصادية

تأتي الاحتجاجات الأخيرة، بعد تسجيلات المقاول الفنان محمد علي، لتنفي فرضية استقرار نظام السيسي، وبالإضافة إلى ارتكاز النظام إلى القمع الدموي بالدرجة الأولى، ثم الحماية الإقليمية، وفي صدارتها "إسرائيل" والدولية، وهو ما يعني أنّ النظام ينطوي على هشاشة كامنة، فإنّ تناقضاته الداخلية باتت حديث الكثيرين في محاولتهم لتفسير ظاهرة المقاول، والحراك الجماهيري الذي تبع تسجيلاته، والغموض الذي لفّ موقف بعض مؤسسات الدولة، والطريقة التي حاول فيها نظام السيسي الدفاع عن نفسه باستنفار كلّ ما أمكنه استنفاره. وعلى أيّ حال، وبصرف النظر عن فرضية التناقضات الداخلية في الدولة التي دفعت محمد علي إلى السطح، فإنّ ذلك كلّه يؤكد على ثنائية الهشاشة والاهتزاز في موقف النظام.

لا شكّ أن تغيير نظام عربيّ، وفي مصر على وجه الخصوص، يحتاج إلى جملة من العوامل، التي من ضمنها تناقضات النظام، والمواقف الإقليمية والدولية، والأمريكية أهمّها مطلقا، ولا يمكن والحال هذه القول إنّ الحشد الجماهيري المحدود بمجرّده قادر على ذلك، وفي حال كان ثمّة إرادات داخلية، أو إقليمية ودولية، لاستبدال السيسي، فهي مرهونة بمصالح أخرى ليس من ضمنها مصالح المصريين، أو المنطقة العربية، وقد كشفت الدولة المصرية، من بعد ثورة يناير وما تبعها من أحداث، عن فساد مستحكم في نخبتها التي تديرها، ورفعت الغطاء عن كثير من الأوهام حول استقلالية ونزاهة بعض أجهزتها ومؤسساتها. إذ لا ينبغي أن يكون متاحا لشخص أظهر توجهات مشبوهة، تطعن في عمق استقلالية الدولة، أن يصلّ لموقع الرئاسة، إلا إذ كانت الدولة كلّها مخترقة للجهات التي استفادت من هذ الشخص، أي السيسي.

بصرف النظر عن فرضية التناقضات الداخلية في الدولة التي دفعت محمد علي إلى السطح، فإنّ ذلك كلّه يؤكد على ثنائية الهشاشة والاهتزاز في موقف النظام

لكنّ ذلك لا يعني التشاؤم أبدا، وهذه الحسبة المستغرقة في عقلانيتها، لا ينبغي أن تُغفل ثلاثة عوامل ظاهرة من شأنها أن تخلق زحزحة مفيدة في المشهد المصري؛ الأول هشاشة النظام، والثاني إمكانية استنفار الجماهير مجددا لمواجهته، والثالث حالة السيولة العامّة في المنطقة والتي من شأنها أن تنعكس على مصر. وبالإضافة إلى ذلك، وفي حال صحّت الآراء التي تذهب إلى وجود شرخ في بنية النظام، فإنّ المراكز المناوئة للسيسي، وإن كانت لن تعمل إلا لمصالحها متحرّية الإرادات الإقليمية والدولية التي تحكم مصر، فإنّ تناقضاتها على أيّ حال مفيدة، ومن شأنها أن تفتح المزيد من الثغرات للفاعلين النابهين.

بصرف النظر عن السياقات التي تمخضت عن محمد علي، وعن الذين يقفون خلفه، وهي كلّها اعتبارات ينبغي استكشافها وتبيّنها وفهمها، فإنّ الأحداث الأخيرة تثبت إمكانية استئناف العمل الفاعل لمواجهة النظام، من خارجه، وباستثمار تناقضاته، وإمكانية إعادة تأطير الجماهير وتنظيمهم، وفي حال لم تفض الأحداث الأخيرة إلى نتيجة حاسمة، أو أثبت السيسي قدرته على الإمساك الكامل بزمام الأمور، فإنّ ذلك لا يعني قدرته على منع استفادة خصومه من الأحداث الأخيرة، التي يمكن اعتبارها الرنّة الأولى في الجرس المعلّق. وكما قيل، ففي الحركة بركة.

أضف تعليقك