بقلم سمير العركي: كاتب وصحفي مصري، يعمل في القناة العربية بهيئة الإذاعة والتليفزيون التركية TRT
قبل أكثر من ثمانية وثلاثين عاما أطلق الرئيس الأسبق أنور السادات موجة اعتقالات في مطلع شهر سبتمبر/أيلول عام ١٩٨١ شملت أكثر من ألف وخمسمئة معتقل من جميع الاتجاهات السياسية: الإسلامية واليسارية، الليبرالية والمحافظة والمستقلة، وحوت القوائم أسماء من العيار الثقيل أمثال فؤاد سراج الدين، ومحمد حسنين هيكل، وعبد العظيم أبو العطا، والشيخ أحمد المحلاوي، والشيخ عبد الحميد كشك، وعمر التلمساني، ومحمد حلمي مراد، وعبد المنعم أبو الفتوح ...وآخرين. ما أصاب الرأي العام حينها بحالة من الصدمة لم ينجح خطاب السادات يوم ٥ سبتمبر في تبديدها، بل لعله زاد الموقف ضبابية، تلك الفترة العصيبة التي انتهت بأحداث المنصة الشهيرة يوم ٦ من أكتوبر/تشرين الأول ومقتل السادات، سماها هيكل في كتاب حمل اسم "خريف الغضب".
واليوم يبدو أن مصر تقف على أعتاب خريف مماثل عقب موجة الاعتقالات التي لم تتوقف عند القوى التقليدية المناوئة للانقلاب العسكري منذ عام ٢٠١٣ بل امتدت لتشمل أسماء أكاديمية ونقابية مثل د/ حازم حسني، ود/ حسن نافعة، بل وأسماء كانت محسوبة على ٣٠ يونيو نفسها مثل الصحفي خالد داود رئيس حزب الدستور السابق.
السادات في تبريره لقرارات التحفظ الشهيرة قال إنها لمواجهة الفتنة الطائفية، واليوم يبرر إعلام السيسي اعتقالات سبتمبر بأنها ضرورية لمواجهة محاولات هدم الدولة المصرية!
اتساع نطاق الاعتقالات عكس حالة من عدم اليقين لدى النظام، الذي ظن في لحظة ما أنه سيطر على الأوضاع في مصر ولم يعد ثمة ما يقلقه قبل أن يفيق ويجد نفسه عاريا لا يستر سوأته شيئا في أعقاب فيديوهات المقاول الفنان محمد علي الذي تمكن من هز عرش الجنرال هزا عنيفا، وألقى حجرا كبيرا في الماء الراكد، وفتح باب التأويلات والتفسيرات على مصراعيه ووضع مصر على أعتاب سيناريوهات متعددة.
سيناريوهات خريف الغضب:
عكست فيديوهات محمد علي صراعا واضحا داخل مؤسسات الحكم، وأكدت أن الأمر لم يصفُ بعد للسيسي رغم مرور أكثر من ست سنوات من انقلابه على الرئيس الراحل محمد مرسي. بل جاءت في وقت عبقري بلغ به التعب مبلغه بالشعب المصري بسبب التراجع المخيف للأوضاع الاقتصادية والذي أفضى إلى ارتفاع نسبة الفقر وتآكل الطبقة المتوسطة وتدهور العديد من الأنشطة الاقتصادية بسبب مزاحمة الجيش لرجال الأعمال والمستثمرين.
لذا كان حديث محمد علي عن الإسراف وهدر المال العام في بناء القصور والفنادق بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت حركة التضامن الواسعة مع الفيديوهات، واستجابة قطاع من الجماهير غير المسيسة لدعوته للنزول إلى الشوارع، ما عكس غضبا مكبوتا لدى المصريين، وهو أكثر ما يخشاه نظام السيسي، إذ يعلم يقينا أن نزول هذه الشريحة من المصريين كفيلة بإحداث تغيير حقيقي إذ سيصعب السيطرة على حركتها لعدم خضوعها لسلطة فوقية يمكن التفاهم معها أو تهديدها.
البعض توقع أن يلجأ الجنرال المهزوز إلى تنفيس الغضب المكتوم بالإفراج عن شريحة واسعة من المحبوسين احتياطيا، وفتح المجال العام ولو جزئياً أمام الأحزاب لممارسة العمل السياسي "المنضبط" أمنيا، خاصة مع توقع الصحفي المقرب من السيسي، ياسر رزق، خلال لقاء في برنامج "على مسؤوليتي" بفضائية صدى البلد تبني السيسي لمبادرة للإصلاح السياسي عام ٢٠٢٠. تصريحات رزق نظر إليها البعض على أنها مؤشر مهم لما هو قادم. ومما عزز تلك الفرضية الأسلوب اللين الذي تعاملت به قوات الأمن مع المتظاهرين في أول نزول لهم مع انسحاب تام لقوات الجيش من الشوارع والميادين.
لكن الأحداث التالية كشفت أن السيسي قرر اختيار السيناريو الأسوأ، لكنه المتوافق مع شخصيته وطبيعته، فقد شنت أجهزته الأمنية حملات اعتقالات واسعة النطاق ضد الشباب والنشطاء، كان من أبرزهم قيادات حزب الاستقلال بسبب دعوته للتظاهر حيث جاء في مقدمة المعتقلين، السيدة نجلاء القليوبي زوجة الصحفي المناضل مجدي حسين المحبوس حاليا، والدكتور مجدي قرقر الذي كان معتقلا حتى وقت قريب في سجن العقرب، وشملت القائمة أيضا المحامية اليسارية ماهينور المصري التي تم إلقاء القبض عليها من أمام نيابة أمن الدولة العليا أثناء توجهها للحضور مع المعتقلين على ذمة المظاهرات، إلى غير ذلك من الأسماء التي تذكرك بقائمة سبتمبر ٨١ حيث جمعت كل أطياف العمل السياسي في مصر، كما ضمت أسماء قبطية يستحيل اتهامها بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
اختيار المواجهة
إذن، وكما يبدو، اختار السيسي خيار المواجهة سواء مع أغلبية الشعب المصري التي باتت على اقتناع تام بأن استمرار الوضع الحالي كفيل بتدمير ما تبقى لها من مقومات الحياة، أو المواجهة مع الجهات التي تقف خلف محمد علي وهي مواجهة محفوفة بالمخاطر إذ لا يمكن التنبؤ بتداعياتها وتأثيراتها خاصة وأنه يصعب حتى الآن التنبؤ بسلوك الشعب المصري وقراره، إذ من المعلوم أن أي ثورة تمثل لحظة استثنائية في مسار التاريخ، لحظة نادرة الحدوث لكنها عظيمة التأثير، كما أن الوضع الدولي والإقليمي لا يصبان في مصلحة السيسي في ظل الضبابية التي تحيط بالمستقبل السياسي لحليفه الإقليمي الأكبر بنيامين نتنياهو رغم تكليفه رسميا بتشكيل الحكومة لكن التكتل الذي يقوده مازال في حاجة إلى ستة مقاعد لنيل الأغلبية ، إضافة إلى انشغال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالمواجهة مع إيران والتي أثبتت فيها طهران قدرة عالية على المواجهة والمناورة وهو ما ظهر جليا في خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما عمق جراح الرياض ووضعها في موقف لا تحسد عليه، أما دوليا فلم يسعد السيسي طويلا بحرارة اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب، والذي يبدو أنه كان بمثابة الضوء الأخضر لحملة الاعتقالات الأخيرة، فقد قررت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي بدء إجراءات عزل ترمب، عقب اتهامه بممارسة ضغوط غير أخلاقية ضد رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي خلال مكالمة هاتفية، الأمر الذي يعني دخول الرئيس الأمريكي في سلسلة طويلة من المتاعب خلال المدة المتبقية من فترته الرئاسية الحالية، يقل فيها اهتمامه بالسيسي.
خيار المواجهة الذي اختاره الجنرال المهزوز، رغم أنه الخيار الأسهل بالنسبة له لكنه الأخطر عليه، خاصة إذا ما قررت قيادات الجيش على وجه الخصوص في لحظة ما التخلي عن دعمه.
إذن، اقتحم خريف الغضب للمرة الثانية خلال ثمانية وثلاثين عاما حياة المصريين وبات كثيرون مقتنعين بأن ثمة تغييرا يلوح في الأفق، وإن كان يصعب حتى الآن تحديد ملامحه.
أضف تعليقك