بقلم سيف الدين عبد الفتاح
ظن الحلف المضاد للثورات العربية أنه قد نجح نجاحا مؤزرا في تمكين كثير من عملائه على دول الموجة الأولى للثورات العربية، تلك الموجة التي شهدت احتجاجات سلمية واسعة في بعض هذه الدول، بدأت بتونس ثم مصر، ثم توالت الاحتجاجات الأخرى في اليمن وسوريا وليبيا. وكانت تلك الاحتجاجات على التتابع والتوالي تمثل حالات متراكمة أزعجت حلف الثورات المضادة دوليا وإقليميا.
وبدا هؤلاء في الإقليم يتنمرون لحصار تلك الثورات أو الالتفاف عليها أو إجهاضها، أو تحويلها إلى حالة من الانقلابات العسكرية، أو من خلال تأليب قوى مختلفة على حروب أهلية. بدا هذا الحلف سعيدا آمنا؛ مع رؤيته بلاد الثورات على هذه الحال من الانتكاس عقابا على قيامها بتلك الاحتجاجات والمطالبة بالتغيير. وبات هؤلاء يتحدثون عن تلك الثورات بأنها فشلت، ويتندرون عليها بأنها تحولت لخريف عربي بدلا من وصفها بالربيع، أو الترويج زورا وبهتانا أن تلك الثورات مسؤولة عما وصلت إليه شعوبها من أحوال متدنية في الأمن، حتى أن دولة مثل سوريا هُجر (سواء في هجرات داخلية أو في إطار تفريغ سكاني وقد وصل عدد هؤلاء إلى نصف تعداد هذا الشعب) وقُتل وجُرح أهلها، والأمر في اليمن معروف الحال من الناحية الأمنية والصحية والاقتصادية، وليبيا لا تزال تعيش حروبا تنتقل في جغرافيتها، ويقوم عسكري طامح بتكرار تجربة الانقلاب العسكري ولكن بشكل مختلف. أما مصر، فهذا انقلاب السيسي الذي قام به مبكرا فأثّر على بقية الثورات، وأعلن أن تلك الأحداث التي أطلق عليها الثورات قد مرت ولن تعود.
لم يفلت من هذا المصير إلا ثورة تونس التي أقرت واستقرت على الاحتكام لآليات انتخابية حقيقية؛ تواجه من خلالها الأمور إذا ما طفت على السطح أزمات أو عقبات، وحدثت تغيرات في تونس تارة نحو اتجاهات دينية وتارة نحو توجهات علمانية، ولكن ظل هؤلاء يحتكمون إلى تلك المعايير المتفق عليها من انتخابات محلية أو انتخابات عامة، واستمرت الثورة التونسية تعطي الدرس تلو الآخر لتؤكد للجميع، رغم وجود مشكلات اقتصادية، معقدة أثّرت على معاش الناس في تونس نظرا للانشغال والاشتغال بالسياسة بمعناها التقليدي وبالتصنيفات الأيديولوجية بأشكالها المتعارف عليها، ولكن ظل الجميع يعترفون باتفاق الحد الأدنى الذي يشكل خط إنذار للجميع واحترمه الجميع، رغم بعض التدخلات الإقليمية والدولية التي يمكن الإشارة إليها على مستويات كثيرة، وفي تجليات كان بعضها يتسم بالخطورة، وكانت الانتخابات الأخيرة في ظل موجة أخرى من الثورات العربية والاحتجاجات الشعبية لتعبر عن استمرارية هذا النموذج الذي يستعصي على ممارسات داخلية قد تضر به أو محاولات إقليمية للالتفاف عليه؛ تُوج ذلك بانتخاب قيس سعيد المستقل في انتخابات رئاسية.
هذه الموجة الثانية من الثورات والاحتجاجات الشعبية أكدت بالنسبة لهذا الحلف المشؤوم أن الشعوب لن تقبل باستمرارية المعادلات القديمة في الفساد والاستبداد، ضمن شبكات داعمة في الإقليم وفي الخارج، وكذلك قوى في الداخل آثرت أن تستمسك بمصالحها الآنية والأنانية لتعبر عن تكئات لهذا الحلف المضاد للثورات ليقوم بتخريب تلك الثورات بشكل أو بأخر، وذلك بتحويلها إلى حالات انقلابية أو حروب أهلية مسلحة. وكانت تلك الموجة التي أعلنت عن ميلاد جديد لاحتجاجات شعبية اختلفت في أشكالها واتحدت في أهدافها، لتعبر عن مواجهة جديدة مستأنفة في شكل احتجاجات شعبية واسعة، ولتؤكد للجميع بما فيها ذلك الحلف المشؤوم؛ أن الثورات العربية لن تموت وأن الاحتجاجات الشعبية لن تتوقف.
وإن هذه الثورات إذا قامت فرادى في موجتها الأولى واستُهدفت في مجموعها، فإن هذا المصير المشترك ضمن محاولات المضادين للثورة إجهاضها. كان ذلك إيذانا بربط معركة التغيير بمواجهة بين طرفين كبيرين، أحدهما يضاد التغيير ويحاول الالتفاف عليه وحصاره، والآخر يدعم التغيير ويؤكد على مطالبه وضروراته بالنسبة للشعوب التي لم ولن تفقد إرادتها. بدا الأمر على هذا النحو، وأشارت تلك الموجة الثانية إلى أن حصار الثورات الأولى لن يمنعها ولن يقف في طريقها لمواصلة حالة ثورية مستأنفة، بل لتؤكد أن بلاد الموجة الثورية الأولى قادرة هي الأخرى أن تستعيد إرادتها وتستأنف احتجاجها وثورتها، وهنا بدا هذا الجناح المشؤوم يتحول إلى جناح مأزوم أصابه الارتباك وأصابه الرعب من موجة جديدة مستأنفة، والذي ظن مع مواجهته الأولى أنه لن تقوم لهذه الشعوب قائمة، وأن مصانع الاستبداد ومصارع الاستعباد قد استطاعت أن تحكم شبكتها على نحو أو آخر.
وهنا من الأهمية بمكان أن نؤكد في تلك الموجة الثانية التي تجلت في ثورات السودان والجزائر والعراق ولبنان، وإرهاصات احتجاجات المعلمين في الأردن، وأهل المغرب من الريفيين؛ لتؤكد أن هذه الشعوب لم ولن تموت، وأن جُدُر الخوف التي صٌنعت لن تستمر، وأن القيود التي أُحكمت لا بد وأن تنكسر؛ وشكلت هذه الطاقات الشعبية قفزا على نظرية الحدود التي حالت بين تلك الشعوب فانتصرت عليها وقفزت فوق أسلاكها الشائكة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وفيضانات التعاطف الشعبي مع الشعوب وبعضها البعض، لتعبر بأن قضية هذه الشعوب قضية واحدة؛ تنفض عن نفسها غبار معادلة الأسياد والعبيد، وتؤكد أن الشعوب متمسكة بإرادتها، وأنها ليست قطعانا يمكن أن تُساق، وأن احتجاجات الشعوب ومطالبها يجب أن تصدع وتصدح في العالمين بصوت عال يسمعه كل هؤلاء الذين في آذانهم وقر، أو هؤلاء الذين يضعون أصابعهم في آذانهم؛ فكانت تلك الانتفاضات وتلك الشعارات تزلزل هؤلاء الطغاة العتاة على كراسيهم، وتزلزل قواعد استبدادهم، وتجبر هؤلاء على الاستجابة للشعوب بأشكال شتى.
نريد أن نؤكد أن تونس بانتخاباتها الرئاسية والبرلمانية لم تكن في حقيقة الأمر إلا استئنافا لحالة ثورية عبر الدستور والانتخابات، وأن أهل السودان الذين رفضوا الاستبداد والفساد قد ساروا في مسار التغيير والمشاركة في الحكم، وأن ثوار الجزائر لا يزالوا يُملون الشروط ويؤكدون على المطالب، وأن أهل العراق قد ثاروا بالآلاف يواجهون الفساد ويطالبون بالعيش الكريم، وأن أهل لبنان يدوسون كهوف الطائفية بأقدامهم ليعلنوا عن مطالبهم الوطنية. وفي معظم تلك البلاد سبّوا السيسي كرمز للمضادين للثورة، واستنهاضا لمصر الثورة والتغيير.
إنها ثورات المعاش والعيش الكريم، وثورات لمواجهة الفساد والاستبداد المقيم، وثورات المطالب التي لا تحيدعنها الشعوب باعتبارها عنوانا للعيش الكريم. وسار هؤلاء جميعا يدا واحدة في مواجهة نخب سياسية قد تعفنت استبدادا وفسادا، وأن هذه الشعوب على تنوعها وامتدادها قد قامت ولن تقعد حتى تنال مطالبها وتحقق كل ما يتعلق بضروراتها وحاجاتها، رغم زبانية من إعلام أراد أن يزيّف الواقع ويبيّض وجوه الطغاة الكالحة، وأضاءت الشعوب تلك الثورات بنداءاتها الصاعدة الصادحة لتؤكد:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
من تونس أبو القاسم الشابي يبدأ خط الثورات ويمتد خيطها، لتعود لمصر في أحداث العشرين من أيلول/ سبتمبر 2019، وسيستأنف أهل اليمن وسوريا وليبيا؛ وينضم إلى مسبحة الثورات والاحتجاجات كل هؤلاء في السودان والجزائر والعراق ولبنان، والبقية تأتي.
ألا شاهت الوجوه لهذا الحلف المشؤوم المأزوم الذي آن له أن ينزوي في معركة تغيير لن تتوقف عنها الشعوب؛ إرادة وكرامة وحرية وعيشا كريما وعدلا مقيما، إنه حديث مستأنف للثورات سيكون له ما له من آثار في معركة التغيير الكبير.
أضف تعليقك