بقلم: سليم عزوز
احتفى الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، وهم في دهشة، بجنرال عسكري في تونس، هو قائد قوات الدولة، وهو يوجه التحية العسكرية لرئيس البلاد المدني المنتخب قيس سعيد، وهو يهتف: "أمرك سيادة الرئيس"، فكشف عن التميز في التجربة التونسية، فليس في تونس خير أجناد الأرض!
لقد شهدت تونس انتقالا سلسًا للسلطة، بعد أن شهدت مشهدا انتخابيا رائعاً، في ظل أوضاع بائسة تعيشها دول الجوار. فالعسكر استولوا على الحكم في مصر، وليبيا التي لم نعرف لها جيشا، والأخ العقيد معمر القذافي يختار حرسه تارة من النساء، وتارة من الشبيحة الأفارقة يلدا جنرالا كان في الحضانات الأمريكية، استعدادا للحظة غياب القذافي فيستبدل البيت الأبيض جنرالا بجنرال، وحفتر بالقذافي!
لا يفوتنا في هذا الزحام، أن نوجه تحية مستحقة للهيئة المستقلة للانتخابات في تونس، فقد رعت انتخابات تعاني فراغا في عملية الرقابة، وانتصرت لإرادة الشعب التونسي!
لا أخفي أن قلقا ساورني عندما قرأت أن الانتخابات الرئاسية التونسية، قد شهدت غيابا كبيرا للمراقبين الذين يمثلون المرشحين في جولة الإعادة، وصلت إلى 32 في المئة من اللجان التي كانت دون مراقبين تماما، في حين أن 44 في المئة من اللجان كانت بمراقب واحد؛ لا أظن أن أغلبيتهم يمثلون المرشح المستقل قيس سعيد، فالرجل بدا زاهدا في الأمر، ولم يقدم على خطوة توكيل مراقبين عنه في اللجان، على نحو خشيت معه أن يكون هذا هو الباب الذي يدخل منه الشيطان!
فقيس سعيد ليس مرشح حزب يقوم في الولايات المختلفة باختيار المراقبين وترشيحهم له، وليس مرشح تيار أو جبهة، فهو المرشح "الفرد"، الذي مكنته الجماهير من أن يفوز على مرشحي الأحزاب القوية، ومن دخول جولة الإعادة، بشكل مثل مفاجأة. فمن كان يعتقد حقا أن هذا المرشح الذي يفتقد للدعاية ولا توجد لديه حملة انتخابية؛ يمكنه أن يدخل جولة انتخابية حامية الوطيس، وفي جولة الإعادة كان يواجه مرشح الثورة المضادة، بدوائرها الإقليمية والدولية وقواها الاستعمارية التي غادرت وظلت تتعامل مع المستعمرات القديمة، على أنها تخصها وأنها من أملاكها، ولا يمكنها أن تتصور أن تحصل شعوب هذه المستعمرات على الحرية، بشكل يمكنها من اختيار من يحكمونها بالإرادة الحرة!
وكان المال الحرام حاضرا بقوة، وهو أمر يعزز من سهولة التزوير وشراء الذمم. وعندما يغيب المراقبون يسهل التزوير، لكن اللجنة العليا للانتخابات حمت أصوات الناخبين، وصانت إرادتهم، فأعلنت النتيجة كما هي، وفاز المرشح الفرد، وسقط مرشح القوى الإقليمية والدولية، ولم يجد في نتيجة الانتخابات مطعنا على هذه الانتخابات.
عبقرية التشكيل:
عندما اطلعت على تشكيل اللجنة المستقلة للانتخابات، وقفت على أن التونسيين لهم قدم صدق في التوصل إلى عبقرية التشكيل للهيئات المستقلة، للوصول إلى معنى الاستقلال بسهولة، عن دول أكثر عراقة يأتي التشكيل فيها مفتقدا للاستقلال بعد اللف والدوران، وتكون السلطة التنفيذية هي من بيدها في الحقيقة عقدة الأمر، وإن بدت هذه الهيئات مستقلة من حيث الشكل والاسم.
إن هذه اللجنة تشكل من ستة من القضاة، لا توجد سلطة لوزير العدل، أو أي جهة تتبع السلطة التنفيذية ولو من بعيد في اختيارهم، فمن تختارهم هي جمعية ونقابة القضاة، فضلا عن آخرين من المجتمع المدني، تختارهم نقاباتهم، الأمر الذي يؤكد استقلالها التام عن الحكم القائم ودوائره. ثم إنها بالممارسة أكدت الاستقلال الفعلي، فقد حمت إرادة الناخبين، وبشكل يؤكد أن الديمقراطية في يد أمينة فعلا، ما دام هناك من يحرس أصوات الناخبين، ولو كانت المؤامرة عليها ضالعة فيها قوى خارجية وداخلية، في مواجهة مرشح لا يوجد من يمثله في كل اللجان.
لتنجح تونس في أول تحدٍ، لكن ما تزال هناك تحديات كثيرة تواجه التجربة، تستدعي يقظة الشعب التونسي لحماية هذا المكتسب، الذي من حسن حظه، أن الجيش التونسي بعيد عن السياسة، وهو أمر يُحسب للحبيب بورقيبة، وإذا كان هناك من أرجع تقدم تونس، وتقهقر بلدان أخرى من عواصم الربيع العربي، فإن هذا لا يرجع لفروق في وعي الشعوب، أو لتميز في تفكير قادة الإخوان هنا وجماعة النهضة هناك، فقد حدث في تونس ما جرى في غيرها، من محاولة إفشال التجربة من قوى الفشل السياسي، لكن الجيش لم يذع البيان الأول، وليس في هذا فضل من الجيش التونسي أو منة، ولكن لأنه بعيد عن السياسة ولم يكن يوما جزءا منها، في مرحلة ما بعد الاستقلال.
فبينما تحقق الاستقلال في مصر على يد حركة الضباط، وانتقلت رئاسة الدولة من اللواء محمد نجيب إلى البكباشي جمال عبد الناصر، فإن أول من تولى الحكم بعد الاستقلال في تونس هو بورقيبة الحاكم المدني. وإذا كانت نفس قائد الجيش حدثته بالاستيلاء على السلطة بعد هروب الرئيس ابن علي، فقد وجد قائد الحرس في الواجهة، يخطط لانقلاب قصر، فتبددت الأطماع مبكرا، على صخرة المواجهة وبسبب حضور الشعب للواجهة!
رغم احتشاد القوم:
لقد قامت قوى الكفاح الفاشل في تونس، من اليسار والفرانكفونيين بما يلزم لتقليد التجربة المصرية، في إسقاط الحكم المنتخب، ولم يمنعهم من ذلك أن رئيس الدولة المنصف المرزوقي هو أقرب لليسار ومن قلب التيار المدني، فمالِ هؤلاء والأفكار وبناء الدول؟ بل واستنسخوا حركة تمرد، لكن الفارق هنا، ليس مرده إلى وعي حركة النهضة، وافتقاد الوعي لدى جماعة الإخوان المسلمين، فلولا بيان 3 تموز/ يوليو، لما أمكن للمظاهرات ان تُسقط الدكتور محمد مرسي، ولولا بُعد الجيش التونسي عن السياسة لتكررت التجربة بحذافيرها في الخضراء!
وإذا كان هناك من يعتبرون أن خطأ الإخوان في مصر يتمثل في خوضهم الانتخابات الرئاسية، فقد كانت هذه رغبة الشيخ راشد الغنوشي، الذي كان يرى أن الأوضاع الدولية تسمح بأن ينافس الإسلاميون على الحكم، وإذا كان قد تراجع بعض الشيء بعد فشل التجربة المصرية، فها هو يقدم غير مدبر، فتنافست النهضة على الانتخابات الرئاسية بمرشح لها، ويتمسك هو إلى الآن برئاسة الحكومة، مع أن التحديثات ما تزال قائمة. ولست أخشى من تدخل الخارج وحده، لكن من فوضى يقدم عليها الداخل، فتمثل غطاء للتدخلات الخارجية، وللمال الحرام الذي أفسد تجارب واعدة! الأمر الذي يجعلني ألفت نظر الشعب التونسي إلى حماية إرادته، التي لا تهدده الدولة العميقة كما يعتقد. فالتحدي الحقيقي الذي يواجه تجربة الديمقراطية، هو في أحزاب الأقلية وقوى اليسار الفاشل وبقايا الاستعمار وذيوله، وقد انزعج مركز الاستعمار في باريس لفوز قيس سعيد، وما ظني إلا أنهم ينتظرون الفرصة لينقضوا من جديد على فريستهم.
غواية المصورين:
وتبقى كلمة للرئيس قيس سعيد، وهي أنه ينتهي فورا من غواية المصورين، وتقديمه على أنه الرئيس الزاهد الذي يذهب إلى عمله في سيارة متهالكة، وإعلانه القطيعة مع القصور، وأنه مجرد موظف في الدولة ينتهي من دوامه ويعود لمنزله، فهذه صورة مبسطة لمهمة الحاكم، لاسيما إذا كان يواجه تحديات كبيرة كتلك التي تواجهها تونس! وإن كان ما يجعلنا مطمئنين على نجاح التجربة في تونس أن العسكر بعيدون عن الحكم. ففي الخضراء هتف الجنرال: "أمرك سيادة الرئيس"!
أضف تعليقك