بقلم.. محمد منير
مشهد انتشال الجسد النحيل للطفلة مروة صاحبة التسعة أعوام والتي لم تلق صباها، مشهد مروع وخاصة مع صوت الأم المؤلم وهي تشاهد ابنتها خارجة من تحت المياه بعد أن صعقها التيار الكهربائي بسبب سلك مكشوف وسط مياه الأمطار.
الموت العبثي تشتهر به الدولة المصرية، وأحد الأسباب المعتمدة للموت في مصر، ومنها الصعق الكهربائي، أو الوقوع داخل بالوعة مجاري، أو الموت بفعل سقوط يافطة دفعتها الرياح، وأيضا هناك أسباب عبثية مدعومة بالتدخل البشري مثل موت مواطن بالمعاش بعد أن ضربته موظفة مكتب التأمينات بكعب الحذاء على رأسه، وإذا أطلقت العنان للكلمات لرصد ووصف مشاهد الموت العبثي في مصر فلن تكفي لوصفه مجلدات.
لم تكن الطفلة مروة الضحية الوحيدة للأمطار التي سقطت على مصر بشكل متقطع على مدار يوم ونصف، فقد كانت ضحية ضمن سبع ضحايا أو عشرة، معذرة إحصائيات الموتى بفعل العبث في مصر أمر غير يسير.
تصريح مصدر مسؤول
ما علينا.. هذا الرقم المعلن سواء سبع ضحايا أو عشرة لم يكن كافيا لتحريك مشاعر المسؤولين لاتخاذ الإجراءات الوقائية لحماية المواطنين من مخاطر الموت بفعل تفاعل سقوط الأمطار مع الإهمال، فخرج المستشار نادر سعد المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري بتصريح نصه: «هل معقول نصرف 300 مليار على حاجة بنستعملها يوم أو اثنين في السنة؟»
وتصريح المتحدث باسم مجلس الوزراء هو أحد الدلائل على صحة المقولة «الناس على دين ملوكهم»، فقد سبقه في هذا الحديث ملكه ومالكه الرئيس الجنرال عندما أعلن رفضه ميزانية صيانة خطوط القطارات وقال: إنه يفضل استثمارها في البنوك لتدر أرباحا!! في الوقت التي كانت فيه حوادث القطارات تحصد أرواح المئات من المصريين بسبب انهيار المرفق!!
نعود لكارثة الأمطار العبثية قبل محاولة الوصول لحالة التعالي غير المبررة من النظام الحاكم على مآسي ومصائب وآلام المصريين، هناك حقائق تحيط بالموضوع أهمها أن الأمطار ليست هي الحادث الموسمي البسيط الذي يشير إليه المتحدث باسم مجلس الوزراء، ولكن الحادث الموسمي غير البسيط هو وقوع ضحايا ما بين مصابين وموتى كل عام أغلبهم من الأطفال بسبب تفاعل مياه الأمطار مع سلوك الكهرباء المكشوفة، وانهيار الطرق بفعل تلف كل شبكات الخدمات في مصر نتيجة الفساد من ناحية، وعدم اهتمام الدولة بها من ناحية أخرى وخاصة في أحياء الفقراء، كما أن الأمطار في مصر ليست أمطارا قوية وعنيفة مهما بلغت ذروتها بالمقارنة بدول أخرى، ورغم ذلك فإننا من أكثر دول العالم تأثرا بشكل سلبي بسقوط الأمطار بشكل يصل إلى حد كارثي يقع فيه العشرات من الضحايا، وفي نفس الوقت أقل دولة على مستوى العالم في صيانة وإقامة مشروعات البنية التحتية لمواجهة أي مخاطر طبيعية رغم ضخامة الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة من المواطنين وخاصة رسوم السير في الطرق.
الحكام الأجانب كانوا أكثر رحمة
وأما النسبة لصيانة المرافق والطرق حماية للمواطنين وتيسيرا عليهم فهذا ليس بدعة أو عبئا وهو المفهوم والمعنى الذي يحاول أن يصدره لنا الجنرال وأتباعه، وكأن مشروعات الدولة هي منحة يمنحها السادة للشعب عبيد إحسناتهم، وكأن أموال الدولة هي ملك لهم يبنون بها قصورهم ومدنهم وقراهم السياحية ويلقون بالفتات للشعب، متجاهلين أن هذه الأموال مصدرها الضرائب والرسوم وفائض قيمة عمل المواطنين المطحونين من دمائهم وعرقهم ..
ما علينا، أقول: إن صيانة المرافق وإقامة المشروعات لحماية الشعب ليست بدعة فقد سبق هذا النظام من أقام مخرات السيول ومهد الطرق وأقام السدود وحفر الترع لاستقبال الأمطار والاستفادة بها، ومن قام بهذا كانوا من الحكام الأتراك والمماليك في مصر، ورغم أنهم من غير المصريين لم يتعالوا على الشعب المصري مثلما يتعالى الحاكم المصري ورجاله الآن، وأقاموا المشروعات مدفوعين بضمائرهم التي كانت أكثر يقظة من ضمائر رجال النظام الآن!
أقام الحكام الأتراك والمماليك المشروعات التنموية ومشروعات البنية التحتية لحماية المصريين، وأهملها النظام المصري والحاكم المصري، وأهمل شعبه وتعالى عليه واستغلهم رجاله استغلال الأسياد للعبيد.
وليست كارثة الأمطار هي الطريق الوحيد للموت العبثي والمصائب في مصر، فهناك حوادث الإرهاب غير المفسرة وغير المعلوم أسبابها ولا مصدرها والتي حولت فرحة عروسين ليلة عيد الأضحى الماضي إلى كارثة عندما انفجرت في موكب عرسهما عبوة ناسفة قضت على أسرهم وأقاربهم ووقع الموتى والضحايا بالعشرات، وغيرها من الحوادث المتكررة في مصر، والتي يعقبها تحليلات بهاليل إعلام النظام والتي تشير إلى أن هناك مؤامرة على الدولة والرئيس وتطلب من الشعب التمسك به وتأييده وغض البصر عن إخفاقاته وفشله المتكرر.
لماذا يتحمل المصريون الظلم؟
وهنا يدور سؤال منطقي يطرحه من يعيش في مصر ومن يتابع الحالة المصرية في الخارج، لماذا يتحمل المصريين كل هذا ولا يثوروا مثلما ثاروا على نظام حسني مبارك عام 2011.
سأتجاوز عن المبرر المتعلق بحالة التراجع الثوري والإحباط، الذي أصاب المصريين بعد أن وقعوا في شرك مؤامرة الدولة العميقة والعسكر عقب ثورة عام 2011 وهوما أدي لانتصار حركة المقاومة المضادة للثورة واستمرار النظام الفاشي في الحكم.
هناك دراسات كثيرة قدمها كثير من المفكرين حول الخنوع والاستكانة للطاغية وهي حالة تصيب بعض الشعوب في بعض الفترات..
وبالطبع لن أتكلم عن المطيعين والمؤيدين من أصحاب المصالح، فهؤلاء أطراف في مقايضة منطقية يقدمون فيها الذل والهوان والطاعة والاعتراف بالحكم الفاشي والدعاية له والهجوم الشرس على معارضيه مقابل أجزاء مميزة من الفتات يلقيها إليهم رجال النظام وأتباع الحاكم.
ولكني أقصد بكلامي هؤلاء الذي يسكتون على الظلم والفساد والبطش والجوع والموت الذي يحصد أبناءهم أخواتهم دون أي مقابل بل على العكس يتعايشون مع حياة مهينة وتحيط بهم المخاطر من كل جانب، لماذا هم صامتون؟!
العصيان
يقول الكاتب والمفكر الفرنسي إتين دي لأبويسيه مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، في مقال له نشره عام 1549م «إن سر كل طغيان إنما يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبدين في اضطهاد سائرهم وهكذا يرمي الطاغية بالفتات إلى زمرة المتملقين من أتباعه فلا يكتفي هؤلاء بما يغنمون منه ولا بدوام طاعتهم له بل إنهم يستبقون رغباته ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه. وهؤلاء المتملقون المقربون إلى الطاغية يختارون العبودية طواعية، بينما يكون الشعب مكرها عليها».ويضيف لابوسيه في تحليله لطبيعة الشعوب المكرهة على قبول الاستعباد «البشر يعشقون الحرية ولا يستسلمون للعبودية إلا في حالتين: إما أن يكونوا مكرهين بالقوة أو مخدوعين كما يفعل الكثير من الطغاة في العصر الحالي حين يروجون بأنهم صمام الأمان والاستقرار للبلاد وأن ذهابهم يعني أن تنزلق البلاد في أتون الفوضى ويتفشى العنف والجوع والتشرد حتى يرضى الناس بهم حكاما رغم علمهم بفسادهم وظلمهم».
إذن فالمفكر لابوسيه، يرى أن الشعب الواقع تحت الطغيان والعبودية، بعيدا عن العبيد برغبتهم، إنما هو مكره على هذا العبودية، أو مضطر لقبول هذا الوضع مقابل وهم الأمان والاستقرار... ورغم ذلك يقدم الكاتب والمفكر الفرنسي روشتة الخلاص للشعوب الواقعة تحت هيمنة الطغيان للتخلص من الحاكم المستبد قائلا: «صمموا على ألا تخدموا بعد الآن وسترون أنفسكم أحرارا. لا أريد منكم أن تدفعوه دفعا، ولا أن تخلعوه خلعا، بل كفوا عن مساعدته فقط ولسوف ترونه ينهار كتمثال ضخم أزيحت قاعدته فهوى وتحطم»
ربما يرى البعض أن هذا الحل يندرج تحت مظلة النضال السلمي، وهو ما لا يلقى قبولا خاصة بين الشباب الواقع بين ضغطين.. ضغط الاستبداد والقهر من ناحية، وضغط الطاقة الثورية الشبابية التي تريد أن تتفجر في مواجهة الظلم والفقر والفساد، ولكني أراه حلا مرحليا و مدخلا ملائما لظروفنا للحظة الجهادية الحاسمة ومقدمة تمرد وعصيان مدني ينتهي متوجا بلحظة ثورية مكتملة الرؤية، ووقتها نستطيع الإجابة على سؤال «بأي ذنب قُتلت مروة؟»
أضف تعليقك