بقلم: وائل قنديل
فتاة مصرية ظهرت فجأة في فيديو موجع، يذكّر الناس بأن الثورة على المظالم والانتهاكات والإهانة، الفردية والجماعية، واجبٌ وضرورةٌ، وليست ترفًا أو بحثًا عن بطولة.
تحدثت الفتاة لدقائق مفعمة بالصدق والألم والأسى على حالة العجز القومي العام. حاولت إيقاظ الضمائر المدفونة تحت ركام الخوف وادعاء عدم القدرة على المواجهة والمقاومة، مستخدمةً لهجة شديدة الحدّة والقسوة، بلغت أنها تساءلت: هل بقيت رجولة في مصر، بينما النساء صرن سبايا يتعرّضن لأبشع صور الانتهاك، في الشوارع والسجون، على مرأى ومسمع من الجميع؟
لا يعلم أحد من أين جاء هذا الصوت المنتفض بالغضب والحسرة على البلاد والعباد.
صرخة مروة، الفتاة المنفجرة غضبًا من الوضع البائس الذي تتردّى فيه مصر، انطلقت على خلفية فواجع موت المصريين مصعوقين بكهرباء أعمدة الإنارة في الشوارع، في أثناء نصف ساعة من المطر، باغتت مصر فظهرت الحقائق عارية: هذا نظامٌ كاذبٌ وزائفٌ في ادعاءاته كلها، تلك الخاصة بأن الله بعثه من أجل بناء دولة قوية ومتينة وعصرية.
لم يحدث في تاريخ مصر، حتى في ذروة ضعفها وفقرها، أن كان الناس يموتون صعقًا بالكهرباء، وقت نزول المطر، وبهذه الأعداد. ولم نسمع أن فتيات وأطفالًا يتجمّدون مصعوقين على أعمدة الشوارع، إلا في فترة "أيوه، أنا ببني لا مؤاخذة دولة ينبهر بها العالم".
الحاصل أن مفهوم الدولة مات صعقًا بالاستبداد والطغيان، قبل أن يموت المواطن مصعوقًا بكهرباء الشوارع، إذ تعرّض الوطن نفسه لعملية صعق أفقدته القدرة على الحركة وعلى النطق، ودخل في غيبوبة كاملة، لم يقطعها إلا إخراج المقاول الشاب محمد علي بمشروع للغضب والثورة، أربك الجميع، المعارضة قبل السلطة، فكان صادمًا أن المعارضة قرّرت الاكتفاء بالفرجة على فرصة العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، انتظارًا لما يسفر عنه اليوم من نتائج، وبعدها تلتحق بالفرصة، إن حدثت الاستجابة الواسعة.
بينما كانت صدمة السلطة أعمق، إذ بدت مصعوقةً من أن الذين ظنتهم موتى في قبورها، محكمة الغلق، قد انتفضوا وتحرّكوا وخرجوا إلى الشوارع في 13 مدينة مصرية، حتى أن عدد المعتقلين منهم فاق الألفي مواطن.
أصيب نظام عبد الفتاح السيسي باللوثة، مع اجتراء الجماهير على الهتاف بسقوطه، ودعس صور "قداسة الجنرال" بالأحذية، بعد أن ظنّ أنه نجح في الإجهاز بشكل كامل على مفهوم الشعب، وتحويل الجماهير إلى كائناتٍ لا تطالب إلا باحتياجاتها الغريزية، ولا تفكّر في أبعد من ذلك، بحيث يصبح منتهى الحلم هو البقاء على قيد الحياة، خارج زنزانة.
هذه اللوثة طالت الكل، حتى الذين كانوا معه، حتى وقتٍ ليس بعيدًا، فرأينا انحطاطًا في التوحش، إلى حدود منح المرأة أولويةً في أعمال البطش والانتهاك، كي تصبح عبرةً لمن يفكّر في المقاومة.
وبالتزامن يتم ضخ كميات إضافية من مبيدات الوعي والعقل المسرطنة، لتشيع أن المؤامرة على الدولة وصلت إلى مرحلة العبث بالمناخ. وكما قلت سابقًا، فإن رأسمال هذا النظام، ولا يزال، هو عوائد احتراف الشعوذة السياسية، والاستثمار في الجهل. لذا، تنشط كل أدواته في استئصال مراكز الإدراك عند الجماهير، بوسائل عدة، أهمها تجريف البلاد من كل عقلٍ ناقد، أو فكرٍ مخالف، أو صوتٍ مختلف، سواء بالتهجير الإجباري، أو الإسكات والمنع من الكلام، ومن الظهور ومن الكتابة. وبموازاة ذلك التمكين للمشروع القومي للتجهيل والإسفاف والهلوسة أن صرخة الفتاة التي رجّت الآفاق قبل أن تختفي، تأتي في إطار ارتدادات زلزال المقاول الشاب، محمد علي، والتي تؤكد أن الشلل والعجز والسكوت ليست قدرًا محتومًا، وأن تفشّي الاستبداد والطغيان لا يعني أن فرصة الثورة منعدمة، ذلك أن الثورة بنت القمع والظلم، وكلما زاد القهر والقمع زادت حاجة البشر إلى الثورة والغضب.
بعبارة أخرى، تفاقم حالة القهر وانتهاك الكرامة هو مبرّر الثورة وباعثها ووقودها، إذ لا حاجة إلى الثورة إذا كان الإنسان يجد كرامته مصونةً، ويجد رغيف الخبز وحبّة الدواء، ويحصل على حقه كاملًا.
شمن هنا، يبدو عجيبًا تبرير حالة السكون والخمول والانكماش بأن القمع بلغ مستوياتٍ مخيفةً وغير مسبوقة، والقول إن بطش السلطة شديدٌ ولا يرحم..هنا السؤال: إذا لم ينفجر الناس بالثورة على هذه الأوضاع، فمتى يثورون ويغضبون؟
أضف تعليقك