• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم.. يحيى كامل

لم يزل وجه الراحل الشاب محمد عيد، أو شهيد القطار كما صار يعرف، يلاحقني، لكن ليس وحده، بل تلاحقه وتزاحمه وجوه ضحايا عديدين، بدءا من ماسبيرو، ومن ثم وقوفا طويلا في رابعة، وضحايا ستاد الدفاع الجوي وبورسعيد، ضحايا شتى القطارات، والميتين اختناقا في عربة الترحيلات. وهناك ضحايا لا وجوه لهم كعشرات الألوف القابعين في المعتقلات، في سبيلهم إلى موت بطيء معذب متعمد.

 

صورٌ وتصريحاتٌ وحماقاتٌ ومشاريع عواصم جديدة تصدر عن السيسي وأركان نظامه، ترسم كابوسا يتشكل وتصعد أسواره الفاصلة على حدود الطبقة والوظيفة كجدران الفصل العنصري في إسرائيل، ذلك الكابوس في حقيقة الأمر هو دولة السيسي وطبقته، التي يشيدونها وفق تصورٍ بهدف الفصل والعزل والتأمين، كحصون القرون الوسطى، وليس في ذلك ما يدهش، إذ يصدر عن عقليةٍ يسكنها مزيجٌ سقيمٌ وسام يقتات على الجهل والأفكار والانحيازات المسبقة.

 

والحكاية لمن لم يتابعها تتلخص في أن "كمساري" أو مراجع التذاكر في قطار الإسكندرية – الأقصر خير شابين بائعين جوالين بين دفع ثمن التذاكر، بالإضافة إلى غرامة، أو القفز من القطار أو تسليمهما إلى الشرطة، وإذ لم يتوفر لهما المبلغ، ولما كانا على "باب الله" كما قالا، وبالطبع خشيا الشرطة لأسباب بديهية، فقد قفزا بعد أن فتح لهما باب القطار المتحرك فسقط محمد عيد تحت العجلات التي خرطته، لكنه قبل أن يقفز (وفقا لصاحبه الذي نجا) تساءل: "هو القطر ده مفيهوش رجولة ولا إيه يا جدعان؟" ثم قفز ليلاقي مصيره البائس.

 

ونستطيع جميعا أن نطرح سؤاله نفسه على البلد بأكمله، فالضحية ليس فردا، وإنما مثال أو نموذج يختزل ويمثل ملايين الناس، ليس فقط لأنه يعول أمه المريضة وإخوته بعد فقدان الأب، بل لأن الخيارات التي طرحت عليه هي في حقيقة الأمر ومغزاه، المطروحة على كل من هم خارج طبقة السيسي المخملية، من الضباط والقضاة والموسرين، ولما كان شيءٌ لا يحدث عبثا ولا اعتباطا، فإننا نستطيع النفاذ عبر مأساته ومصيره إلى جوهر الوضع والظرف الموضوعي والانحياز والرؤية التي تتخلق في ظلها دولة السيسي، إن محمدا (وأمثاله من الملايين في بلد يشكل الشباب أكثر من نصفه) ليس مواطنا وإنما عبء. هذا هو باختصار. قطيع يشكل عبئا لا بد من السيطرة عليه وتحجيمه وترويضه في الوقت نفسه الذي يتحلل النظام فيه، ويتنصل من أي التزامات اجتماعية أو اقتصادية تجاهه؛ والكمساري بالمناسبة يقع في الخانة نفسها، فالدولة في نظر السيسي عصا غليظة وعنف يحمي قلته الناجية، فهو يسحب الدعم عن كل شيء ويترك الناس من أمثال الكمساري ومحمد ليأكلوا ويقطعوا بعضهم، ضحايا يتبادلون الجرح والتعذيب والقتل، وإذ ذاع الأمر لا يحاسب الوزير ولا السيسي، باعتباره المسؤول الأول عن شيوع العنف هو الذي يعتمده أسلوبا مفرطا في استخدامه، ولا يني يهدد به، والمسؤول أيضا عن الإفقار وغياب الرحمة، بل تصبح جريمة الكمساري وعامل القطار الذي أتاه بمفتاح الباب، بينما القطار سائر؛ هما مخطئان ومجرمان بالطبع، ولكنهما ليسا منفردين، ولعله لزم التذكير والتأكيد أنه في بلاد أخرى لا يستقيل الوزير وحده إنما الحكومة كلها، وبالطبع من نافل الذكر أن السيسي لن يستقيل.
بيد أن ما يغيظ أيضا هو ذلك التناقض في خطاب البورجوازية المصرية، إذ إنها في تقريعها الدائم لا تني تنعى على الناس الذين تتعامل معهم بصراحة على كونهم "عالة" وعبئا على الدولة تستحثهم على العمل والإنتاج، كأن الفرد منا مطالبٌ بأن ينشئ مصنعا صغيرا! ثم ها هو شاب، مكافح، تعلم صنعة الميداليات فحذقها وصار يسافر إلى الإسكندرية، كل هذه المسافة، ليبيعها على الشاطئ ليسترزق، أليس هذا هو ما نطالب به؟ أليس هذا النموذج مستحقا للتشجيع والاحتفاء.

 

للأسف، فإن الموافقة على كلامي، إن جاءت، فهي متأخرة: فقد قضى مهروسا تحت عجلات قطار مسرع، تحت فولاذ لا قلب له يحاكي نظاما يقتل بدم بارد.

 

إنه التوحش يطل مرة أخرى علينا، ليذكرنا بأن ثمن الثورات المغدورة والرأسمالية النيوليبراية المسعورة وإملاءات المقرضين الدوليين توحشٌ ودمٌ وأشلاء.

 

الإجابة عن سؤال الشاب الراحل هي بالنفي، فالبلد تنزلق منه معاني الرحمة وقيم الإنسانية مع الإفقار والتوحش الذي يبعث في الناس أسوأ ما فيها، في ظل نظام يكرس العنف والحلول الفردية والسعار المتستر وراء عصاب وطني فارغ.

 

ليت الشابين كانا على باب الله كما قالا وتصورا، إذ لم يدركا أنهما بكل أسف على باب السيسي وباب دولته، التي لا تقيم لهما وزنا ولا قيمة، لا لكرامتهما وأمثالهما ولا وجودهما. إن النظام الذي تعمد بالدم في رابعة معلنا عن طبيعته، لا يكترث بالناس بهذا القدر أو ذاك، ولولا ما أحدثته الفاجعة من صدى غضب، لما اهتم أيٌ من أركان النظام ولاعتبروا الأمر عاديا وأمرا آخر يحدث، فالقطارات وحوادثها تحفل بالكثير، وتحديدا في مصر حيث صارت حوادث القطارات وضحاياها مثارا للتندر من كثرتها.

 

للأسف لن يكون محمد آخر الضحايا، فكم غيره تهرسه تروس هذه الماكينة الجهنمية، جريمتهم الكبرى (وربما الوحيدة) أنهم فقراء.

 

أكاد أرى صورة السيسي التي فرضوها علينا في كل مكان في إطار تحيا مصر، على لافتات عالية، سواء فوق الطرق السريعة التي تصل المدن أو الجسور أو مقالب النفاية ومستنقعات الفقر، عاليا متعاليا مبتعدا، بينما الناس، الضحايا، ينهشون بعض أسفل، يدفعون من أجسادهم ومن مستقبلهم ثمن بقاء نظام الثورة المضادة. سوف يصدر في حق الكمساري حكمٌ لعله يكون قاسيا، وسيحاسب بضعة مسؤولين لا ثقل لهم، وستنطلق حملةٌ من تطييب الخواطر والاستشهاد بضحايا قطارات في بلدان أخرى أو تسونامي ليرى الناس كم يحب الله مصر، وأنه يرحمها كرامة لخاطر السيسي ربما، وهذا كل شيء. لن يحاسب المسؤول الحقيقي. وحدها ثورةٌ حقيقية، تلك التي بانت بشائرها مرة أخرى في لبنان والعراق، ستجلب العدل والسلام، الخبز والحرية لمحمدين كثيرين سيقضون حتما في ظروف بائسةٍ مشابهة.

 

أضف تعليقك