كانت الأستاذة الجامعية، عائشة خيرت الشاطر، محمولة في سيارة إسعاف لمحاكمتها، ظلمًا، في قضيةٍ ملفقة، وكانت الناشطة والصحافية، إسراء عبد الفتاح، تواصل إضرابها المفتوح عن الطعام، احتجاجًا على اعتقالها والاعتداء عليها، ظلمًا، وكانت صحافية أخرى، آية حامد، يتم صفعها بقرار إعادة حبسها، يلغي قرارًا بإخلاء سبيلها، وكانت الطفلتان، همس وهيا، تعيشان مشاعر اليتم، على الرغم من أن والدتهما الصحافية آية علاء، ووالدهما الصحافي حسن القباني، على قيد الحياة محبوسين منذ شهور، من دون تهمة حقيقية.
وكانت العضو السابق في المجلس القومي لحقوق الإنسان، هدى عبد المنعم، بعد ثورة يناير قد أتمت عامًا في الحبس الاحتياطي، من دون تهمة منذ اعتقالها، وهي على مشارف السبعين من عمرها.. وكانت علا القرضاوي قد أمضت أكثر من عامين محبوسةً بلا تهمة، سوى أنها ابنة عالم ممن يفخر بهم الأزهر والفكر الإسلامي كله. وكانت سمية ناصف وآلاف النساء من المعروفات وغير المعروفات يواجهن العذاب والامتهان للروح والجسد في سجون عبد الفتاح السيسي.
كان ذلك كله يحدث في اللحظة التي وقف فيها شيخ الأزهر، أحمد الطيب، يلقي كلمة لمناسبة ذكرى مولد نبي الرحمة والإنسانية، ويذكّر عبد الفتاح السيسي، المنتشي بسلطته وتسلطه، بمضامين خطبة الوداع التي ألقاه النبي محمد صلي الله عليه وسلم قبل موته.
كان الإمام الأكبر ينادي على بصيص من الإنسانية داخل حضور الاحتفالية، ناقلًا عن رسول الإنسانية "اتقوا الله في النساء".
هي الخطبة الأقوى والأروع لشيخ الأزهر في هذه المناسبة، إذ بدت وكأنها تتحدّث عن اللحظة الراهنة، بينما أصيبت القاعة بالوجوم، وغطّت في صمت رهيب لم يقطعه إلا تصفيق الحضور لحظة ذكر اسم عبد الفتاح السيسي، وكأنهم أرادوا أن يخبئوه في حضانة التصفيق المبالغ فيه من كلماتٍ تنطلق كالرصاص من لسان شيخ الأزهر، وهو يتحدّث عن سقوط الدول والمجتمعات التي تفترس حقوق الإنسان، وتنتهك حرمات ثلاث: حرمة الدم، وحرمة الملكية الفردية الخاصة، وحرمة الأسرة والعرض والشرف.
كان شيخ الأزهر كمن يضع يده على أصل الداء في مصر، وهو يستذكر رسول الإنسانية مشيرًا إلى "طائفة من شرّار أمته استباحت الدماء والأعراض والأموال"، مسترجعًا خطبة وداعه، حين خطب "لافتا أنظار الأمم إلى ضرورة مبدأ التكافل والتعاون في كل مجتمع"، ليخلص إلى "وأن المجتمعات التي تستبدل بهذا المبدأ مبادئ أخرى، كالصراع والتشرذم والتفتت أو التسلط والانقضاض على مقدرات الآخرين، لا مفر لها من الانحلال ثم السقوط. وقد رأينا في جيلنا هذا كيف سقطت حضارة كبرى اتخذت من مبدأ الصراع فلسفةً لنهضتها في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، فما بلغت عامها السبعين حتى كانت حبرًا على ورق، وكذلكم الحضارات التي تتغنّى اليوم بالمبادئ ذاتها، فإنها لا محالة ستلقى المصير نفسه إن عاجلًا أو آجلًا".
تناول شيخ الأزهر الظلم بوصفه الآفة التي تلتهم الأمم والمجتمعات، مذكرًا الجميع بأن التحذير من الظلم ورد ثلاث مرات في خطبة الوداع، وفي القرآن الكريم جاء التحذير من الظلم في 190 آية كما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في 70 حديثًا.
كان ذلك كافيًا لإصابة الحضور بالسكتة، وكأنهم يطالعون صورة مصر في مرآة كلمة شيخ الأزهر، حتى جاءت الفقرة الأخيرة التي يهنئ فيها السيسي بالمناسبة، ليقفز الأخير، على الفور، ملقيًا كلمةً مكتوبةً في عجالة، ليعلن بعدها فقرة الارتجال المسرحي الركيك، فيرد على شيخ الأزهر بأن ما تركه الرسول هو، فقط، عناوين كبيرة، وأن "الكلام سهل".
كلمة شيخ الأزهر كانت أشبه بتشخيصٍ دقيق للحالة المصرية، منذ استولى السيسي على السلطة، غصبًا، بغطاء ديني كهنوتي، وفره حضور شيخ الأزهر نفسه، وبطريرك الكنيسة. ولعلها أقوى كلمة للإمام، بعد كلمته المتلفزة، عقب جريان الدماء أنهارًا في مذبحة الحرس الجمهوري، وأمام قبر الجندي المجهول، والتي لوّح فيها بالاعتكاف والاعتزال، إن لم يتوقف سفك الدماء.
على أن سفك الدماء، والاعتداء على الأنفس والممتلكات والأموال، وإهانة النساء، لم يتوقف، بل زاد وبلغ حدود التوحش مع مذبحتي رابعة العدوية وميدان النهضة، ولم يتوقف حتى الآن، كما استمر شيخ الأزهر غير قادر على أن يعتزل أو يعتكف.. فقط كل ما لديه أن يقول كلامًا تختبئ بين سطوره أوجاع ذاتٍ لا تقوى على الخروج من مستنقع السلطة.
أضف تعليقك