كتب: عبدالرحمن فهمي
كان للنبي صلى الله عليه وسلم جوانب مشرقة ونواحي مختلفة من العظمة، وكان في كل جانب المثل الأعلى والنموذج الفريد، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سياسيًّا محنكًا وفقط، ولا قائدًا عسكريًّا فذًّا، ولا مصلحًا اجتماعيًّا، ولا رجلاً بلغت فيه الإنسانية ذراها فحسب؛ بل كان كل هذا وتجسدت فيه معالم الإنسان الكامل.
ومع أن أحدًا لم يبلغ مرتقاه، ولم يصل إلى علا ذراه؛ إلا أنه نالته الأيدي الآثمة، وشهرت به الألسنة الحداد، وتبدلت نواحي عظمته إلى لائحة اتهام.
ونحن سنبرز أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنسان كان يفيض رقة وتتفجر منه العواطف النبيلة والمشاعر الغامرة حتى شملت بفيضها وعمت بخيرها كل من حوله من أحبابه وأصحابه وأهله وأولاده وأعداءه وخصومه ولم تقف عند هذا الحد بل كان للحيوان منه نصيبًا موفورًا.
أولا: إنسانيته مع أصحابه
كان يحب أصحابه ويبدأهم بالسلام ويكنيهم ويدعوهم بأحب الأسماء إليهم، بل كان يقف لخدمتهم ويجهد نفسه لراحتهم، يقول أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه، فقالوا: يا رسول الله: لو شربت؟ قال: "ساقي القومي آخرهم شربًا".
وكان أشد ما يكرهه منهم أن ينزلوه منزلة كسرى وقيصر فيبالغوا في تعظيمه ويشتطوا في تقديره، فقد دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابته رعدة من هيبته فقال: "هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".
كان يسأل عن أخبارهم ويتفقد أحوالهم، ويدعو لغائبهم، ويزور مريضهم ويشيع جنائزهم، ويصلي عليهم، فعن ابن عمر- رضي الله عنهما- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال: "هل فيكم مريضًا فأعوده؟ فإن قالوا: لا؛ قال: هل فيكم جنازة أتبعها؟ فإن قالوا: لا؛ قال: من رأى منكم رؤيا فليقصها علينا؟!".
وقد بلغ حبه لهم وشفقته عليهم أنه يرق لحالهم فيحزن قلبه وتدمع عينه وتتفطر نفسه، ففي رواية ابن عمر– رضي الله عنهما– قال: (اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود؛ فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله قال: قد قضى– أي مات-؟ قالوا: لا يا رسول الله؛ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ولما رأى القوم بكاء النبي بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب؛ ولكن يعذب بهذا وأشار بيده إلى لسانه".
كان يعلم الجاهل منهم ويرشده بحب ويهديه بلطف ويلتمس له العذر، وكان أبعد ما يكون عن الأخذ بالعقوبة، فعن معاوية بن الحكم السلمي– رضي الله عنه– قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أماه ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فما لامني صلى الله عليه وسلم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني– أي انتهرني– ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن)
ما رد سائلاً، وما كسر قلب فقير قصده رغم حاجته، وضيق يده، وكان يرى في نفسه أن غيره أحوج إلى ما في يده منه، فـعن سهل بن سعد- رضي الله عنه- "أن امرأةً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله محتاجًا إليها، فخرج إلينا وأنها إزاره، فقال فلان: إكسينيها ما أحسنها!! فقال: نعم، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه؛ فقال القوم للرجل: ما أحسنت. لبسها النبي محتاجًا إليها ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد سائلاً!!، فقال: والله ما سألته لألبسها؛ وإنما سألته لتكون كفنًا لي"، قال سهل راوي الحديث: "فكانت كفنه".
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل تصرفات أصحابه، ويغض الطرف عن الشاذ منّا ويحول المواقف الصعبة والحرجة إلى طرائف يتندر بها دون أن يضيق صدره، وينفد صبره، كان يضحك في أحلك المواقف، ويبتسم في أصعب الحالات، فـعن زيد بن أسلم– رضي الله عنه- قال: "كان الرجل يهدي العكة من السمن والعسل وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة– أي شيئًا طريفًا– إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول الله هذه هدية لك فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه فقال: يا رسول الله أعط هذا الثمن!! فيقول صلى الله عليه وسلم: ألم تهده إليّ؟!، فيقول: ليس عندي؛ فيضحك رسول الله، ويأمر لصاحبه بثمنه".
ومن ذلك أيضًا، ما رواه أنس بن مالك– رضي الله عنه- قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية فجبذه الأعرابي جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه، ثم قال: يا محمد احمل عليّ بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك!!، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: المال مال الله وإنما أنا عبده، ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ قال: لا!! قال: لم؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير تمر، وعلى الآخر شعير)
* لم تشغله قيادته للمعارك ومنازلة أعداءه أن يرعى الضعفاء ويرق لحالهم، ويسعى لخلاصهم ويمنع عنهم الاعتداء، كانت إنسانيته الراقية وحسه المرهف يدفعانه بقوة أن يكون نصير كل مظلوم، وسند كل مقهور وحامي كل مكسور، (كان لبني مقرن خادمة فلطمها أحدهم ؛ فجاءت تشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى رسول الله مالكها قائلاً له: أعتقوها فقالوا: ليس لنا خادم غيرها قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها) إنه النبي الإنسان الرفيق الرحيم الذي جعل فداء اللطمة، وثمن الإهانة أن تنال هذه الجارية حريتها، والنبي هنا يقرر مبدأ إسلامي أصيل وهو: أن رق الإنسان وعبوديته ليس موجبًا لحرمانه من حقوقه وتجريده من آدميته والاعتداء على كرامته واعتباره كالسائمة، أين هذا الخلق الرفيع المحلق في سماء الكمال الإنساني من أدعياء الحضارة الذين يستباح بهم شرف الإنسان، وينتهك عرضه ويسفك دمه، ويستذل حتى يموت حسرة وألمًا؟!.
* كان عظيم الأدب رفيع الذوق كريمًا، لا يدع إنسانًا أهدى إليه معروفًا، أو ساق إليه خيرًا إلا كافأه بأحسن ما يكون العطاء فإن لم يجد فبدعوة كريمة، وثناء عطر، فكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، فدعا لعبد الله بن بسر فقال: (اللهم بارك لهم في ما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم )، ( وسقاه رجل لبنا فقال: اللهم أمتعه بشبابه فمرت به ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء).
* ولصفاء معدنه، وإشراقة نفسه؛ كان يحب الجمال، ويكره القبح، وتهفو نفسه إلى المعاني الرائعة، وتنفر من معاني الشدة والغلظة؛ حتى أنه غير أسماء أصحابه التي فيها جفوة أوقسوة وبدلها إلى ما فيه رقة وعذوبة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة، وغير اسم "أصرم" بـ "زرعة"، وغير اسم "حزن" وجعله "سهلاً"، وغير اسم "العاص" و "عزير" و "شيطان" و "غراب" إلى "هشام"، وسمى "حربًا" "سلمًا" و"أرض عفرة" سماها "خضرة"، و "شعب الضلالة" سماها "شعب الهدى" و"بنو الزينة" سماهم "بنو الرشدة" "وبني معاوية" سماهم "بني الرشيدة".
كان أعظم ما يملأ عليه حياته، ويشغل باله الأمر الذي بعثه الله من أجله وهو هداية الناس، واستنقاذ نفوسهم من النار فكان لا يبالي في تحقيق هدفه وتبليغ رسالته، وأداء أمانته أن ينفق ماله كله ليكسب قلب إنسان ويستحوذ على حبه؛ فكان المال في يده يستميل به النفوس الشاردة ويستل به سخيمة القلوب الحاقدة، عن ابن شهاب– رضي الله عنه– قال: (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وذكر خيلنا، قال: فأعطى الرسول صفوان بن أمية بن خلف مائة من النعم ثم مائة ثم مائة فقال صفوان: والله لقد أعطاني ما أعطاني، وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلي).
إنسانية متوازنة
لم تكن شفقته بأصحابه ورقته بهم وحبه الغامر لهم يمنعه من تصحيح الخطأ وإقامة الحق وتنفيذ القصاص العادل معهم، نعم إنه رجل توازن يضبط مشاعره ويلجم عواطفه بلجام العقل والحق، عندما أخبر رسول الله بوفاة عثمان بن مظعون أسرع إلى بيته فقد كان عثمان– رضي الله عنه– من الصحابة القريبين إلى قلبه فبكى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بكاء كثيرًا ولكن عندما قالت زوجة عثمان: رحمة الله عليك أبا السائب لقد أكرمك الله؛ فقال النبي: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي!!" فالدموع التي سكبها على عثمان ما كانت لتحول بينه وبين تصحيح خطأ أو على الأقل مبالغ فيه، فالوفاء شيء والحق شيء آخر، وكان هذا المنهج المتوازن لازمة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى في سياسته لأهل بيته نعم كان يفيض حبًّا لزوجاته، ويتفجر رقة وعذوبة لهن لكن ما كان يرضى أن يكون الحب لإحداهن مبيحًا للاعتداء والتجاوز، تقول عائشة– رضي الله عنها– ما رأيت صانعة طعام مثل صفية بنت حيي أهدت إلى النبي إناء فيه طعام وهو عندي "تعني النبي" فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: (إناء بإناء وطعام بطعام).
ثانيًّا: إنسانيته مع زوجاته
كان زوجًا يتودد إلى زوجاته ويتقرب إليهن، ويفعل كل ما يقوي الرابطة ويشد العلاقة، فكان إذا شربت عائشة– رضي الله عنها- من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فيها وشرب، وإذا تعرقت عرقًا– وهو العظم عليه لحم- أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتعامل معهن ببشريته التي فطره الله عليها فلم يكن متكلفًا متعنتًا؛ وهذا سر عظمته، ومبعث الاقتداء بسيرته، فقد كان يتكأ في حجر عائشة ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا، وكان يأمرها فتتزر ثم يباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خلقه أنه مكنها من اللعب ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده وهي متكأة على منكبيه تنظر.
وكان ينزل إلى مستوى زوجاته، ويشبع رغباتهن؛ فـكان صلى الله عليه وسلم يسرب بنات الأنصار إلى عائشة يلعبن معها، وأكثر من هذا ما روته هي بنفسها تقول: "سابقت رسول صلى الله عليه وسلم في سفر، فسبقته على رجلي، قالت: فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال هذه بتلك السبقة".
ثالثًا: إنسانيته مع أبنائه
كان صلى الله عليه وسلم يخفض لهم جناحه، ويفهم طبيعتهم السنية؛ فيداعبهم ويلاطفهم ويقبلهم، ويحتضنهم ويصبر عليهم، ويكره أن يقطع عليهم مرحهم وسعادتهم حتى ولو كان بين يدي الله تعالى، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الحسن بن علي– رضي الله عنهما– دخل عليه وهو يصلي وقد سجد؛ فركب ظهره؛ فأبطأ في سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك، فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل النبي الحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا!! فنظر النبي إليه فقال: "من لا يرحم لا يرحم"، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأمامة ابنة ابنته زينب– رضي الله عنها-، يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها فجعلها على عاتقه، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة "ربيبته" ويقول: "يا زوينب، يا زوينب"؛ مرارًا، ودخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مغتسله فنضح الماء في وجهها يداعبها.
يقول صاحب المواهب اللدنية القسطلاني: فكان في ذلك من البركة في وجهها أنه لم يتغير فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها ظاهرًا في رونقها وهي عجوز كبيرة، وكان صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب وكثير بن العباس ثم يقول: "من سبق إلي فله كذا وكذا"، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم- أي يحتضنهم- وكان يرق لحال الأطفال، ويشفق عليهم، وهز كيانه كله بكاء طفل؛ إذ يشعر في وجدانه بألم الأم وعذابها، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به".
رابعًا: إنسانيته مع أعدائه
من معالم إنسانيته الرائعة أنه رغم خلافه مع قومه وظلمهم له، وتعديهم عليه، وتآمرهم بالقتل والإبعاد والتحريض إلا أنه لم يضق صدره بهم ذرعًا، ودعا عليهم؛ بل كان يفتح يديه، ويبتهل إلى ربه قائلاً: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وكاد أن يهلك نفسه من الحسرة والألم وكثرة الفكر، وطول الهم، وبذل الجهد عله أن ينقذ حياتهم من الكفر وآخرتهم من النار، والقرآن يشير إلى ذلك بقوله (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) (الكهف).
وعن عائشة– رضي الله عنها- قالت: لما كذب الرسول صلى الله عليه وسلم قومه أتاه جبريل– عليه السلام– فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال: مرني بما شئت؛ أن أطبق عليهم الأخشبين فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا"، ما رأت الدنيا إنسانًا يملك أدوات القوة، وأسباب العقوبة، وموجبات الأخذ والتنكيل ثم يترفع عن الثأر ويعلو فوق حظوظ النفس مثل محمد صلى الله عليه وسلم، كان يحلم بأعدائه، ويصبر على من أساء إليه؛ بل كان تزيده الإساءة إحسانًا وعفوًا وكرمًا، جاء زيد بن سعنة اليهودي يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم دينًا كان عليه فجذب ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بني المطلب مطل؛ فانتهره عمر، وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم!! ثم قال: إنا وهو كنا إلى غير ذلك أحوج منك يا عمر!! تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن القضاء ثم قال له: لقد بقي من أجله ثلاث، ثم أمر عمر أن يقضيه ماله، ويزيده عشرين لما روَّعه؛ فكان ذلك سبب إسلام زيد– رضي الله عنه–.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين رحمة لهم ولطفًا بهم، ووقاية من سخط الله ونقمته، فقد عصمهم الله من الاستئصال الجماعي به (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (الأنفال).
ولم يحمل النبي صلى الله عليه وسلم لأحد في نفسه كيدًا، ولم يُكِنّ له حقدًا، ورغم دعوته المجابة لم يرفع يده يطلب من ربه أن يلعن فلانًا ويطرده من رحاب فضله أو ينزل البلاء والنقم على الناس، فدعوته ووجوده في ذاته رحمة للعالمين، يقول صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة".
كانت حركة النفاق تشتد، ويظهر من المنافقين نزغات بين الحين والآخر، وكلما انتصرت للإسلام كلمة، وعلت له راية، وامتد نوره في الآفاق كلما غلت براكين الحقد الأسود في نفوس هؤلاء، واندفعوا للكيد والتآمر لا يلوون على شيء، ولا يبقون على ود، ولا يقدرون حرمة الدين والرحم؛ حتى إنهم نالوا من عرض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمح بهم نفاقهم إلى حد محاولة قتله والقضاء عليه؛ ما جعلهم أهلاً للفضح والثأر والحكم عليهم بالكفر، ومع ذلك ترفع النبي صلى الله عليه وسلم بإنسانيته أن يفضحهم، ويفشي أسرار نفاقهم وأبقاهم بين المؤمنين، وعندما عرض عليه أحد أصحابه أن يقتل عبد الله بن أبي- زعيم المنافقين- قال: "لا حتى لا يقال إن محمدًا يقتل أصحابه"، لقد صارت إنسانيته بأعدائه وشفقته بخصومه مفتاحًا فضَّ به أقفالاً صدئة، وفتح به أبوابًا موصدة.
خامسًا: إنسانيته بالحيوان
كان صلى الله عليه وسلم يعتبر الحيوان كيانًا معتبرًا ذا روح يحس بالجوع ويشعر بالعطش، ويتألم بالمرض والتعب، ويدركه ما يدرك الإنسان من أعراض الجسد؛ لذا رأيناه صلى الله عليه وسلم تتألم نفسه ويرق قلبه لحيوان عضه الجوع ونال منه الجهد، فعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير قد لصق ظهره ببطنه؛ فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة"، ما أعظمك يا رسول الله رغم مسئولياتك الجسام ومهامك العظام إلا أنك لم تُشغل عن مراقبة ما يحدث لحيوان من إساءة بالغة، وإهمال من ذويه؛ فنصحت بالإحسان والرعاية، لقد وسعت شفقته فراخ طائر وأبت أن يفرق بينهم، يقول عبد الله بن عمر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها؛ فجاءت الحمرة فجعلت تفرش؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، وليس في هذا عجب ألا نتذكر أن الله تعالى عاتب أحد أنبيائه السابقين؛ لأنه أحرق بيت نمل، ونبينا هو الذي نقل هذه الحادثة لا يمكن إلا أن يتصرف هكذا؟ يا إلهي ما هذه الشفقة العميقة الشاملة، وما هذا الأنموذج الرائع للرحمة، أجل حتى النملة لم تخرج عن دائرة رحمته صلى الله عليه وسلم، وهل يكون في مقدور إنسان يتحرج عن سحق نملة القيام بظلم الناس وقهرهم.
عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في "منى" خرجت حية فأسرع بعض أصحابه لقتلها غير أنها استطاعت أن تنسل بين شقوق الصخور؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يراقب المنظر عن بعد: "وقاها الله شركم، ووقاكم شرها" فالرسول كان يرى في ما هَمَّ به الصحابة شرًّا، والمقتول وإن كان حية إلا أن لها مكانًا في هذه الدنيا.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نصير كل حيوان أُعتدي عليه، وأُهمل في حقه؛ فكان أول من أسس جماعة للرفق بالحيوان والدفاع عنه والانتصاف من ظالمه، يروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما جاء بعير يشتد حتى سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام بين يديه فذرفت عيناه؛ فقال رسول الله: "من صاحب هذا البعير؟" قالوا: فلان، فقال: "ادعوه"؛ فأتوا به فقال له رسول الله: "يشكوك!!"، فقال: يا رسول الله هذا البعير كنا نسنوا عليه منذ عشرين سنة، ثم أردنا نحره، فقال رسول الله: "شكى ذلك، بئس ما جازيتموه، استعملتموه عشرين سنة حتى إذا أرق عظمه، ورق جلده أردتم نحره بعينه"؛ قالوا: بل هو لك يا رسول الله؛ فأمر به رسول الله فوجهه نحو الظهر "أي الإبل"، ويروي ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا اضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟" إنه ينهى أن تحد الشفرة أمام الذبيحة؛ فإن في هذا الانتظار إيلام لمشاعرها وتعذيب لها، ما أحلمك يا رسول الله، وما أعظم شفقتك، وأروع إنسانيتك، ألا فلتقتدي بك البشرية الحائرة والإنسانية المعذبة، ألا ما أسفه من أرادك بسوء، وأحقر من تجرأ على مقامك العظيم.
أضف تعليقك