عندما قام أحد الصبيان وأصدقائه بالتعرض للتلميذ الأفريقي جون منوت شول في أحد شوارع أحياء القاهرة، لم يتصور أحد أن يتحول الحدث إلى موضوع من موضوعات الرأي العام، للحد الذي جعل رئيس الدولة نفسه يرسل دعوة للطالب الأفريقي ضحية التنمر للمشاركة في المؤتمر الدولي للشباب، وكأن المشاركة ترضية أو كأنه اعتذار رقيق من الرئيس الحنون للطالب الأفريقي.
وقبل الدخول في توصيف الحدث ومناقشة ردود الأفعال الإعلامية والرسمية عليه، والكشف عن الاستغلال السياسي للحدث والزج بتفسيرات بعيدة عن التفسيرات الحقيقية لهذا الحدث وغيرها من أحداث العنف في الشارع المصري، أحب أن أوكد رفضي للتقرير الذي بثته إحدى وكالات الأنباء المشهورة ووصفت الحدث باعتباره ظاهرة منتشرة في مصر تتعلق باضطهاد أصحاب البشرة السوداء!!!، والحقيقة أن المجتمع المصري بعيد كل البعد عن سلوك التميز العنصري بسبب اللون، وخاصة أن سكانه تتنوع ألوان بشرتهم، كما أن غالبية أهل مصر في الجنوب من أصحاب البشرة السمراء، ولن أتوقف كثيرا عند هذا التقرير المغلوط، وسأنتقل إلى الأهم وهو محاولة الوصول إلى توصيف حقيقي لهذا الحدث وغيره.
مبالغة وتعتيم
ما رأيته في الحدث لا يقف عند حدود التنمر كما تداولته أجهزة الإعلام وتعاملت معها الأجهزة الأمنية، ولكن ما يحدث في الشوارع المصرية تجاوز بمراحل هذا الحد، فالشارع المصري أصبح في الفترة الأخيرة غير آمن وتنشر فيه الفوضى بشكل غير مسبوق، وانتشرت فيه ظواهر التحرش والتنمر والاعتداء والبلطجة وخاصة بين الصبيان أقل من عمر العشرين، وما حدث مع الطالب الأفريقي يتكرر كل يوم في أحياء مختلفة بين المصريين وغير المصريين، ومنها مثلا حادث شهيد الشهامة، والأخبار المتكررة عن اعتداءات صبيان على المارة في الطريق سواء بترويعهم بالأسلحة، أو بالكلاب المتوحشة، أو بالتعرض اللفظي بما يهين كرامة المعتدى عليه.
حالة التنميط الإعلامي لحادث الطالب الأفريقي وما تبعها من تحرك أمني أعقبه تنازل من أسرة الأفريقي، وتناولات إعلامية في التوك شو، ودعوة رئيس الجمهورية للصبي المعتدى عليه للمشاركة في المؤتمر الدولي للشباب، كل هذا أدى إلى نتائج أخطر من الواقعة، وهي التعتيم على التعامل مع ظاهرة البلطجة المنتشرة في الشارع المصري والانفلات الأمني غير المسبوق وعدم سيطرة أجهزة الأمن على الأمن العام.
توصيف متداخل
عرّف الباحث النرويجي دان أولويس التنمر «أنه تعرض شخص بشكل متكرر وعلى مدار الوقت إلى الأفعال السلبية من جانب واحد أو أكثر من الأشخاص الآخرين». وعرف العمل السلبي على أنه «عندما يتعمد شخص إصابة أو إزعاج راحة شخص آخر، من خلال الاتصال الجسدي، أو من خلال الكلمات أو بطرق أخرى».
كان «المتنبي» مشهورا بغروره الكبير وكان معروف بالتعالي على الجميع
في يوم من الأيام كان المتنبي يتجول بحصانه في بساتين حلب وإذ به يرى عبدا أسود يعمل في أحد الحقول فاقترب منه وطلب منه أن يسقيه وبعد أن شرب المتنبي أراد أن يرى العبد براعته في الشعر
فسأله: ما اسمك؟
رد عليه العبد: زيتون
فألقى له المتنبي هذه الأبيات:
سموك زيتون فما أنصفو...... لو أنصفوا سموك زعرورا
لأن في الزيتون زيت يضاء به...... وأنت لا زيت ولا نورا
ما قاله المتنبي يندرج تماما مع ما وصفه المجتمع الحديث بالتنمر
إذا هو سلوك قديم سبق التوصيف اللفظي «التنمر» أي أنه توصيف حديث لسلوك قديم، معروف في المجتمعات العربية منذ القدم، بل ويتباهى به العرب في أشعارهم، ولكنه كان طوال الوقت لم يتعد حدود الفلكلور الشعبي والتراث، ولم يكن أحد المؤثرات السياسية كما يحدث الآن، وهذا ما سوف أتعرض له.
التنمر توصيف به الكثير من التداخل بين الكثير من التوصيفات المشابهة مثل التحرش والتعرض وممارسة العنف والقسوة، ورغم لك يمكن الكشف عنه وإدراكه بسهولة باعتباره ضمن حزمة التصرفات السيئة رغم عدم وجود نصوص قانونية واضحة لإدانته، إلا أننا يمكن التعامل معه باعتباره تردي سلوكي ونفسي يزيد وينتشر في المجتمعات الواقعة تحت ضغوط الفقر والحكم المستبد، والنشأة المقهورة كما أشار معظم علماء الاجتماع، ولهذا فالتنمر في مصر يعتبر موروث ونتيجة طبيعية لسلوك القيادات السياسية والقهر الأمني والذي ينعكس بشكل طبيعي على المجتمع ولكي أكون واضحا سأذكر بعض الأمثلة.
تنمر الحكام
فإذا طبقنا هذا التعريف سنجد أن كثير من الحكام العرب كانوا من رواد التنمر سواء في التعامل مع أمثالهم من الحكام أو مع شعوبهم، ففي عام 1966. وقف جمال عبد الناصر يهاجم الملك الحسين ملك الأردن معايرا إياه بأنه قصير القامة ومناديه باسم أمه قائلا: «حسين بن زين سيظل أد كده»، وشاور بيده إشارة توحي بقصر القامة، وتعهد عبد الناصر متهكما بنتف ذقن ملك السعودية وقال: «الضرب في الميت حرام»، مشيرا إلى ترديه الحضاري، ومن بعده وقف أنور السادات واصفا «معمر القذافي بمجنون ليبيا وأطلق عليه رسامي الكاريكاتير المصريين لرسمه كطفل يجلس فوق «قصرية» أطفال يتبرز، كل هذا كان يسمعه الشعب من حكامه وهو يضحك، ولكنه تحول لأسلوب ومنهج بعد ذلك تتعامل به الشعوب مع بعضها.
ولم يقف التنمر عند حد الحكام مع بعضهم، ولكنه وصل لحد تنمر الحكام بشعوبهم، ومن أشهر أقوال تنمر الحكام بالشعوب عبارة القذافي المشهورة والتي وجهها للشعب الليبي قبل أسابيع من قتله على يد الثوار الليبيين «من أنتم».
كان «السادات» يخاطب الطلاب الرافضين لسياساته قائلا «أنتم تفهموا إيه في السياسة!!»، وكان السادات مفرطا في التنمر بالمصريين وظهر هذا عندما تحدي مشاعرهم الوطنية، وألقى خطابا في مواجهة المعترضين على علاقة مصر المفتوحة بأميركا وإسرائيل قال فيه: «إذا لم يطلب الأميركيون إقامة قاعدة عسكرية لهم في مصر، وإذا لم تكن لديهم نية من هذا القبيل، فإنا سأدعوهم لإقامتها»!
وأتذكر في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي حدث في أحد جلسات مجلس الشعب المذاعة، أن ناقش أحد النواب وزير الداخلية في فشل الحكومة في تهجير أهالي منطقة عرب يسار بحي الخليفة بالقاهرة، لإقامة مشروعات سياحية، فجاء رد وزير الداخلية، أن الدراسة الأمنية تؤكد أن هناك احتجاج من سكان الحي، فما كان من رئيس مجلس الشعب آنذاك الدكتور رفعت المحجوب إلا أن انفعل غاضبا في وجه وزير الداخلية قائلا سكان مين اللي بتحتج، ما الدراسة قدامي اهي، حلاق وترزي وبقال، هما دول السكان اللي منعوكم»، لغة استعلاء طبقي وتنمر مبالغ فيها، وبالمناسبة تم تهجير سكان هذه المنطقة بعد ذلك بسنوات، إلى أحياء غير مستعدة من ناحية الخدمات لاستقبال المهاجرين الجدد، وهي نفس الأحياء التي انتشر فيها سلوك البلطجة والتنمر والعنف من أفراد وأشخاص نشأوا وسط مجتمع وحكومات لم تقدم لهم سوى التهميش والتعالي والازدراء والتجاهل والفقر.
الجنرال والشعب السمين
ومن أشهر عبارات التنمر الرئاسي بالشعب عبارات جنرال مصر «أول ما بشوف موظف تخين بأعرف أنه ما بيشتغلش» : «ما تعرفوش انكم فقراء قوي»: «زعلانين أني بأبني قصور رئاسية، ايوه حا ابني كمان».
ترجع الكثير من البحوث أسباب التنمر، والعنف، والتحرش إلى أن مرتكبين هذه الحوادث غالبا ما يكونوا قد تعرضوا لمثل هذه السلوكيات أو عاشوا مهمشين مهملين تحت ضغط الفقر والحاجة فإذا كان الأمر كذلك، فمن الطبيعي أن تنتشر سلوكيات التمرد والتحرش والعنف في شوارع مصر، طالما يحكمها جنرال يفصل بين الشعب والوطن ويرى أن شعبه لا يستحق التعليم، ولا وسائل انتقال آمنة، ويعايره بأنه شعب العوز والفقر.
يا جنرال إذا كنت ترى أن الطفل الأفريقي جون منوت شول يستحق ترضية الدولة وتكريمها وتعاطفك الشخصي الذي دفعك لتوجيه الدعوة له لحضور المؤتمر الدولي للشباب، فأين هذا التعاطف والحنان والدفء الرئاسي من أهالي عشرات الضحايا من الأطفال الذين ماتوا بفعل الإهمال في موسم الأمطار، وأين هذا الحنان والدفء الرئاسي من شهيد تذكرة القطار وضحايا الفقر والعوز والسعي العشوائي وراء لقمة العيش، أين هذا التعاطف والدفء الرئاسي من ضحايا المرض والفقر والجوع الذين يموتون كل يوم، وسط صمت مريب وبغير صرخة احتجاج واحدة تودعهم.
يا جنرال ما حدث مع الطفل الأفريقي جون منوت شول ليس إلا لقطة في مشهد من مشاهد كثيرة جدا في الشارع المصري، سببها الفقر والحاجة والعوز والإرهاب الذي يمارسه نظامك ورجالك من أجل أن يزدادوا ثراء على حساب إفقار وطن بأكمله.
عزائي أن العنف الحاسم قادم لا محالة، عنف الثورة والتغير والانتصار لشعب عاش محروما من الحرية والعدالة الاجتماعية...ترونه بعيدا ونراه قريبا.
أضف تعليقك