بقلم.. وائل قنديل
هل انسحب المنصف المرزوقي من الحياة السياسية التونسية حقًا؟ هل اعتزل الرجل، وقرّر تطليق العمل السياسي بالثلاثة؟. تقول القراءة الدقيقة للبيان الشامل الذي ألقاه المرزوقي هذا الأسبوع إن الرجل، وإن كان ينسحب من الاشتباك المباشر مع اللحظة الراهنة، فإنه يرسم خريطة لمستقبل الثورة... أو ثورة المستقبل، لنكون بصدد ابتعاد عن الحاضر، ودخول مقتحم للمستقبل بقضاياه وتعقيداته.
سبعة برامج عمل يطلقها المرزوقي، وهو يلوح بيديه مودعًا اللحظة الراهنة، محددًا مهمتين تاريخيتين ينبغي الشروع في تنفيذهما الآن، موضحًا "إن على هذه البرامج السبعة أن تنطلق من مجموعات صغيرة تضم خيرة الجامعيين المختصين وخيرة رجالات الدولة كل في مجاله وخيرة نشطاء المجتمع المدني، وإذا تطلب الأمر خبراء أجانب، ومهمتها ليست تدبيج تقارير توضع في الرفوف، وإنما جمع المعطيات، وإعداد، في ظرف لا يتجاوز سنة، مشاريع خطط للخمس والعشر والخمسين سنة المقبلة". ثم يضيف "هناك مهمتان تاريخيتان أمام شباب الأمة وقياداتها في المستقبل: داخليا مواصلة افتكاك الدولة من النخب الفاسدة، لجعلها أداة في خدمة شعب المواطنين".
هذا إذن بيان ظاهره الانسحاب وجوهره الاشتباك، ما يعني أن الرجل حاضر لمعارك المستقبل، حتى وإن لم يخضها بنفسه، مدشنًا قيمةً محترمةً مضمونها أنه ليس شرطًا أن تكون قائدًا تحمله الجماهير على أكتافها وتتغنى بروعته لتكون مناضلًا من أجلها.
لم يعلن المرزوقي غضبه على الجماهير التي صوّتت لغيره، ولم يلعن المناخ السياسي الذي صعد بغيره إلى سدّة الحكم، ولم يتكئ على أريكة الذكريات، مجترًا إحباطات ومرارات ما مضى، مطلقًا دخانًا كثيفًا من الكلام عن اللاجدوى.. لا أمل.. لا مستقبل.
ظهر المرزوقي في الفضاء السياسي التونسي، تقريبًا، في اللحظة التي ظهر فيها محمد البرادعي في مصر، لكن حصيلة عشر سنوات تكشف عن فروقٍ هائلة بين مسيرتين وحصادين، إذ بقي الأول محتفظًا بحالة الثائر، سواء كان في قمة هرم السلطة، أو بعيدًا عنها بالكلية، فيما ظل الثاني يتأرجح بين السلطة والمعارضة، فلا رئيسًا صار، ولا معارضًا استمر.
قلت عن المرزوقي في معمعة انتخابات تونس 2014 إنه "مثّل خلال رئاسته تونس الثورة أملا في نفوس جمهور التغيير العربي بأنه بالإمكان أن تصعد الثورة إلى سدة الحكم، تعبيرا عن إرادة التحول من ديكتاتورية دولة الرجل الواحد والحزب الواحد والصوت الواحد، إلى دولة الديمقراطية والتعددية والحريات".
الرجل، مثل البرادعي، لم يأت من كهوف الدولة العميقة، ولم يكن يوما جزءا من النظام الساقط، بسلطته ومعارضته، بل شكّل في الحالة التونسية، على نحو ناصع ومكتمل، النموذج الكامل للمعارض الحقيقي، المنتمي لثورة شعبه، وليس ذلك المعارض الذي قرّر أن يتملق الريح ويمتزج بتفاعل جديد لم يكن عنصرا أصيلا فيه.
وكما وصفته "يمكنك القول إن المرزوقي مثل في مجمل مسيرة الثورة التونسية حتى الآن النصف الأول من محمد البرادعي في مصر، أو هو المعادل الموضوعي لبرادعي المعارضة والثورة، لا برادعي السلطة الحرام والانقلاب".
الآن، ونحن على أبواب 2020، خرج المرزوقي خالي الوفاض من السباق الرئاسي الأخير، غير حانقٍ على الأوضاع، أو ساخط على الجماهير، بل مقتربًا منها أكثر بمشروع لحماية المرحلة الراهنة من التعثر والانحراف، مدركًا أن ثورة تونس تستحق الاستبسال في العناية بها ومراقبة حركتها خطوة بخطوة، حتى وإن كانت جماهير هذه الثورة قد خذلته، واختارت آخر لمست فيها القدرة على السير بها إلى مستقبلٍ تتحقق فيه أهدافها وأحلامها كاملة.
هذا يجعلنا أكثر اطمئنانًا على مستقبل تونس الثورة، إذ على رأس السلطة الآن رجل من هذه الثورة، وعلى رأس معارضتها، كذلك، رجلٌ مخلص لهذه الثورة، ليتشكل في الإجمال نظام سياسي ناصع الثورية بسلطته ومعارضته.
مرة أخرى تفرض المقارنة ذاتها، بين حالة تونسية وثابة، وحالة مصرية تترنح في بؤسها وهزالها، تفترسها سلطة شديدة العداء لأحلام ثورة الجماهير، وتنهشها أصناف من المعارضة شديدة الابتذال والصفاقة، تستثمر في حالة من الفراغ القاتل، نشأت عن انسحاب مروع لمن كان يفترض أن يكون في صدارة المناضلين لاستعادة ثورة أتلفها الاستسلام لرياح الابتذال وقلة القيمة.. وهذا موضوع آخر.
أضف تعليقك