• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: د. سيف عبدالفتاح

تتداخل المشاهد وتتلاحق في حوادث انتحار لثلاثة من الشباب في أقل من أربع وعشرين ساعة. وتؤكد الإحصاءات المختلفة عن أن مصر تُصنف من دول يكثر فيها الانتحار، ومن المؤسف أن تتضاعف أعداد المنتحرين أضعافا كثيرة بأشكال مختلفة من فئة الشباب خاصة بعد انقلاب الثالث من يوليو.

وعلى الجهة الأخرى نشهد بعض مشاهد اللقطة التي يحترفها النظام الانقلابي ضمن مؤتمرات شباب مصطنعة وزائفة، وتعيينات لنواب من المحافظين أشار البعض إلى أن ذلك هو ضمن خطة لتمكين الشباب.. كل تلك المشاهد المتعاقبة والمتواترة تجعلنا نبحث ليس فقط عن مشاهد ظاهرة أو أعراض واضحة هنا أو هناك، ولكن من المهم حقيقة أن نبحث عن عوامل المرض وليس فقط الوقوف عند حد العرض الظاهر أو المشهد العابر. إنها مسألة أساسية أصابت الحالة النفسية الجماعية، خاصة من فئة الشباب الواعد الناهض.. حالة إحباط مع التراكم تحولت إلى يأس مقيم وأمراض اكتئاب عميم، تؤدي في النهاية إلى تلك المشاهد الانتحارية التي يتخذها بعض الشباب بعد أن فاق الأمر مجال تحملهم وتجاوز قدراتهم على المقاومة أو الصمود.

وتشكل حالات الانتحار تلك واحدة من ردود الفعل القاتلة والمميتة لدى الشباب، بعد أن تسربت إليهم مظاهر اليأس ومشاهد الاكتئاب.

ومن المهم في هذا المقام أن نتذكر أمورا وأحوالا ظلت تتراكم هنا أو هناك في التعامل إبان فترة المخلوع مبارك، وليست حادثة انتحار أحد أبناء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، المتفوق اللامع "الطالب عبد الحميد شتا"، إلا مثالا على ذلك. فقد قتلته السلطة الغاشمة بكلمات باطشة بعد أن اجتاز امتحانات مسابقة الملحقين التجاريين بنجاح وامتياز؛ إلا أنه فوجئ بنتيجة مخالفة معلنة، إذ كُتِب أمام اسمه أنه "غير لائق اجتماعيا".

وكنت قد كتبت عن ذلك الحدث الخطير حينما أكدت أنه بذلك المعيار المعلن فإن رؤساء مصر جميعا هم في خانة غير اللائقين اجتماعيا. ومن دون استعراض هنا أو هناك لحكايات أو قصص، فإن كل رئيس ورد على مصر كان كذلك نسبا ومنبتا ينتمي لأسر فقيرة، إلا أن الأمر في ذلك المقام قد عبّر عن قسوة باطشة من سلطة طاغية حينما تصنف البشر على هواها، فتقتلهم معنويا قبل أن تقتلهم ماديا.. نعم كل هؤلاء مقتولون بفعل فاعل مع سبق إصرار وترصد. يتأكد ذلك من تلك الحال التي وصل إليها المجتمع والتي وصلت إليها سلطة مستبدة لا تقيم للإنسان وزنا ولا تحسب له قيمة، وأصبح قتل الشباب على قارعة الطريق وفي كل مكان من غير حساب أو عقاب؛ طقسا يوميا.

يقول ذلك المنقلب وهو يفتتح مشروعاته الوهمية ناعيا على الناس أنهم قد "بطلوا يحلموا"، نعم أيها الكابوس المنكوس الذي جثم على الصدور، وذاك الخراب الذي حلّ وعشّش في أرجاء الوطن. لقد توقف الشباب وأهل مصر عن الحلم.. إن كنت لا تعرف أن زبانية إعلامك وجوقة إفكك قد سطرت في صدر صفحاتها في يوم ما بـ"إحباط خلية الأمل"؛ واضعين كلمة الأمل بين قوسين ومتباهين بفعل الإحباط. وبصرف النظر عن كل هؤلاء الذين قبض عليهم بتلك المناسبة، فإن المسألة الرمزية التي تتعلق بقتل الأمل لم تكن إلا تعبيرا عن استراتيجية نظام استبد بالبلاد والعباد، وامتهن كرامة النفوس واستهان بالأرواح، وانتهك كرامة الإنسان والكيان، وبات يطارد الأمل (أو ما يتصور أنه شبهة أمل) في كل مكان. بل إن هذا النظام الفاجر قد بنى من السجون بعد الانقلاب ما يزيد عن عدد السجون في عقود سابقة، وتخير من الأسماء ما يؤكد على قتل الأمل، فأسمى أحد سجونه بـ"سجن المستقبل".. هكذا؛ للتأكيد على مسيرته في مصادرة وقتل وإعدام أي بادرة من فتوة شباب أو من غضب احتجاج، وصار بسياساته يحاول من كل طريق ممارسة تزوير مركب ليأخذ لقطة يدعي كذبا أن نظامه يدعم ويدعمه الشباب زيفا وبهتانا.

تأتي كل هذه المشاهد لتدمغ نظام بأسره كيف أنه وبشكل ممنهج يقوم بقتل شبابه بأشكال مختلفة، ومنها تلك المحاولات للانتحار، وقد دفع الشباب إليها دفعا ليوقعهم عمدا في مصائد الإحباط وحبائل اليأس ومزالق الاكتئاب، فجعل من ذلك استراتيجية لمواجهة أي احتجاج قائم، وكأنه قد قرر قرارا بأن يعدم كل طاقة شبابية، إنه كفرعون الذي خاف من نطف أطفال وشباب فقرر أن يقتل كل مولود من المحتمل أن ينازعه سلطانه.. ها هو السيسي يفعلها بدم بارد، فكل يوم نطالع على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي أنواعا من الشباب يقتلون في سيناء من أهلها ومن جنود أُلقوا في كمائن الموت الظالمة لخوض حروب ضد إرهاب محتمل.

وها هم أيضا يختطفون الشباب قسريا، فنقرأ كل يوم عن شباب اختطف أو شباب قتل وصفي خارج إطار القانون، وشباب تحت التهديد المستمر من نظام جعل أهم أهدافه أن يقتل أي حمية أو عزة، أي غضب وأي احتجاج، فقرر أن يعتقل الشباب بالجملة وبالشبهة من دون أدنى وازع أو ضمير وببتهم جزافية وتلفيق خطير، المهم لدى المستبد وكذا مؤسساته أن يرى كل الشباب في السجون وراء الأسوار حتى يأمن على كرسيه ويؤمن سلطانه.

إن هذا النظام بكل أفعاله ومواقفه وسياساته قد قتل الأمل ذاته وجعل منه أمثولة بحيث لا يٌحدِث أي شباب نفسه بأمل أو مستقبل، ثم يطالب الشعب بأن يحلم؛ وما أظن أنه حينما قال "أنتم بطلتم تحلموا ولا إيه"، إلا شماتة من هذا المستبد الطاغية الفاسد الفاجر، وإعلامه الكاذب الزائف وأجهزته التي تمارس ظلما ممنهجا على شباب مصر وعلى أهلها وعلى كل من تحدثه نفسه بأمل.

أيها الصانع لليأس المقيم، أيها الناشر للخراب العميم، أيها الكاذب اللئيم.. ماذا صنعت بشباب مصر؟! إن كنت قد بعت أرض الوطن وفرطت في مائه وتنازلت عن موارده الغازية والمائية، ومارست بيعا لمقدرات وطن لا نعرف مداه من خلال ما أسميته صندوق مصر السيادي الذي لم يكن إلا مسلكا لتخريب وبيع مصر والتنازل عن مكانتها وممكناتها، فماذا تريد من مصر وشبابها؟ ماذا تريد من قوتها الضاربة وشبابها الناهض الفاعل القادر على بناء الوطن؟ ماذا أنت فاعل إلا أن تقوم بمطاردة أي أمل وقتل كل مستقبل وتعطيل كل حلم، فنشرت الدماء في أرجاء البلاد طولا وعرضا، وزرعت الكراهية في كل أرجاء الوطن بيتا بيتا، وتقوم بكل ما من شانه بعمل ممنهج لتدمير البلاد والعباد من بنيان الانسان ومن مقدرات الأوطان؟

استهنت أيها الصانع لليأس بكل ما يتعلق بمنظومة القيم والأخلاق، واستخففت بالأرواح وحرمتها فهانت النفوس على ذاتها وعلى مجتمعها. ما هذا الذي أراه من نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي وقد امتشق كل من هؤلاء سلاحا واتشح بلباس الفتوى يفتي بما أراد؛ فيمن قُتل أو انتحر، ويفتي في شباب مصر متساهلا ومتوعدا؟ ولكنهم لا يعرفون معنى سياق أن يتحول فيه الوطن بأسره إلى سجن كبير وانتظار دور إعدام، أو تتدهور فئات إلى فقر مدقع وحالة معدمة.

إنها حال وطن صنعت فيه الكراهية وقتلت فيه الأمل والمستقبل.. قمت بكل عمل يؤدي إلى وطن بائس يائس؛ ولكنني أؤكد لك أن خطتك واستراتيجيتك في تشييع هذا اليأس المقيم لن تفلح، وأن شباب مصر الناهض سيظل ناهضا ينشد الأمل مواجها كل صعاب وتحديات.

شباب مصر سيحمل لواء ثورة مستأنفة، وعندها سترى أيها الطاغية وسيرون من دعموك في ظلمك واستبدادك؛ أي منقلب ينقلبون.

أضف تعليقك